حلم السلتي
عندما دخل الأبوان زنزانته، كان روجر قد تلقى الورق وريشة الكتابة اللذين طلبهما. وكان قد كتب بسرعة، بيد ثابتة، ودون تردد، رسالتين مقتضبتين. واحدة لابنة خالته جيرترود وأخرى جماعية، لأصدقائه، وكلتاهما متشابهاتان جداً. فإلى جي، فضلاً عن وضع جمل مؤثرة يذكر فيها كم حبها وكم هي طيبة ذكرياته عنها التي يحتفظ بها في ذاكرته، يقول: "غداً، في يوم القديس ستيفن، سأنال الموت الذي سعيت إليه. آمل منالرب أن يغفر أخطائي ويتقبل توسلاتي".
وفي رسالة إلى أصدقائه النفحة المأساوية نفسها: "رسالتي الأخيرة إلى الجيمع هي فلتترفع القلوب، أتمنى الأفضل لمن سينتزعون من الحياة ولمن حاولوا أن ينقذوها، فجميعهم الآن إخوتي". جاء مستر جون إيليس، الجلاد، بملابسه السوداء المعهودة يرافقه مساعد شاب قدم نفسه بإسم روبرت باكستر وبدا عصبياً وخائفاً، ليأخذ مقاساته.. لتحديد ارتفاع المشنقة ومتانة الحبل..
كان يشعر بالطمأنينة، فالخوف الذي كان يصيبه بقشعريرة ويجمّد ظهره من الأيام والأسابيع السابقة تلاش الآن بالكامل، وهو واثق بأنه سيذهب إلى الموت بصفاء مثلما ذهب إليه، دون شك، باتريك بيرز، وتوم كارك، وجوزيف بلانكيت.. وسائر الشجعان الذين ضحوا بأنفسهم في دبلن خلال ذلك الأسبوع من شهر نيسان كي تكون إيرلندا حرة. شعر بأنه قد تحلل من المشاكل والهموم وصار جاهزا لترتيب أموره مع الدب".
قصة روجر كيسمنت تسطع وتنطفئ، تصمت وبعد لحظات من ذلك تنبعث من جديد في ضجة تملأ السماء بالحرائق. بدا الأمر بعد إعدامه في قبر بلا علامات.. كما لو أن قصة روجر كيسمنت قد غابت. فالمساعي التي بذلها محامية جورج غافن ووفيّ لدى السلطات البريطانية، بإسم إخوة روجر، من أجل تسليم جثمانه إلى أسرته لتوفير دفن مسيحي له في إيرلندا قوبلت بالرفض، وفي ذلك الحين وفي الأوقات التالية على امتداد نصف قرن، وكلما أقدم أقرباءه على محاولات مماثلة وظلال وقت طويل لم يتحدث عنه أحد، باستثناء عدد محدود من الأشخاص – منهم الجلاء، مستر جون إيليس الذي خلف في كتاب ذكريات، ألفه قبل قليل من انتحاره، قوله "من جميع الأشخاص هو روجر كيسنت"، احتاج إلى زمن لا بأس به كي يقبل في بلاط أبطال استقلال ايرلندا، كان أحد كبار مناضلي زمانه المناهضين للاستعمار والمدافعين عن حقوق الإنسان وثقافات السكان الأصليين، ومناضل قدّم تضحيات في سبيل انعتاق ارلندا ببطء راح مواطنوه يرضخون لتقبل بطل وشهيد ليس من النمط التجويدي ولا نموذج في الكمال، وأنا كائن بشري، مكوّن من تناقضات وتضادات، من ضعف وعظمة. لم يتوقف قط، وربما لن يتوقف، الجدل حول ما سمي اليوميات السوداء هل لها وجود حقا ومكتوبة بخط يد روجر كيسمنت، بكل ما فيها من ينداءات نتنة، أم أنها زيف اختلقته الأجهزة السرية البريطانية بهدف تقديم امثولة زاجرة لصرف خونة كاينن عن نواياهم.
خلال عشرات السينين رفضت الحكومة الانكليزية السماح للمؤرخين وخبراء خطوط مستقلين بغرض تلك اليوميات، معلنة أنها أسرار الدولة، مما أفسح المجال لشكوك وحجج مؤيدة لقائلين بالتزوير. عندما رفعت السرية، قبل سنوات قليلة نسبيا، تمكن الباحثون من فحصها واخضاع النصوص لاختيارات علمية، ولكن الجدل لم يتوقف، وربما سيستمر لزمن طويل، وهذا ليس بالأمر السيء.. فليس بالأمر السيء أن تحيط دوماً أجواء من عدم اليقين حول روجر كيسمنت، كدليل على أنه من المستحيل التوصل إلى معرفة الكائن البشري بصورة حاسمة..
وبرأي الروائي أن روجر ربما كتب تلك اليوميات الشهيرة، ولكنه لم يعشها، لم يعشها كلها على الأقل، إذ أن فيها الكثير من المبالغات والتخييل، وأنه كتب بعضها لأنه رغب في أن يعيشها لكنه لم يعشها، في العام 1965 سمحت حكومة هارولد ويلسون الانكليزية أخيراً بإعادة نظام روجر كيسمنت إلى وطنه، ووصل الرفاه إلى ايرلندا بطائرة عسكرية وتلقى تكريماً في 23 شباط نت ذلك العام.
لا يوجد مراجعات