خريف البطريرك
في السابع عشر من أبريل رحل ماركيز، صاحب (مئة عام من العزلة)، ثيربانتس الجديد، الكولومبي الذي حصد نوبل بكتابين أساسيين هما حكاية ماكوندو المذهلة – مئة عام من العزلة – وهذه الرواية التي نشرها قبل نوبل بسبع سنوات.
كنت قد أحببت عوالم ماركيز رغم أنني ولجتها من ترجمة رديئة لمئة عام من العزلة – فلذا أنوي إعادة قراءتها بترجمة صالح علماني خلال هذا العام الماركيزي -، ولكن (الحب في زمن الكوليرا) و(قصة موت معلن) جعلت ماركيز من كتابي المفضلين، وجعلت بقية كتبه على قائمة قراءاتي الفلكية الطول.
وكتأبين ها أنا اقرأ كتب ماركيز المنتظرة وسيرته التي كتبها جيرالد مارتن، أنثر كلمات ماركيز على عامي هذا، لأجعله عابقاً بالسحر الذي كان ينسل من نصوصه.
في أدب أمريكا اللاتينية يوجد فرع أدبي خاص، اسمه رواية الدكتاتور، وهي الروايات التي كتبت لتحلل شخصية ديكتاتور ما، متخيل طبعاً، ولكنه مستوحى من دكتاتوريي أمريكا اللاتينية الكثر – الرواية العربية يجب أن تستخدم هذا الفرع، لا أذكر رواية عربية أضعها تحت هذا النوع ما خلا رواية (عالم صدام حسين) -.
كتب رواية الدكتاتور عمالقة أمريكا اللاتينية، من ميغيل أنخيل استورياس في روايته (السيد الرئيس) – والتي كتب ماركيز روايته هذه مدفوعاً بتحديها والتفوق عليها -، إلى ماريو فارغاس يوسا في تحفته (حفلة التيس) – وهي برأيي أبرز روايات هذا النوع وأعظمها -، وأجوستو روا باستوس في روايته (أنا، الأعلى)، وأيليخو كاربنتيير وعدد آخر من الروائيين.
يعرض لنا ماركيز في روايته هذه التي أقدر أنها أنهكت بأسلوبها ولغتها – التي أبدع محمد اليوسفي في ترجمتها – قراء ماركيز، وربما تراجع الكثيرون عن قراءتها مع الصفحات الأولى – فعلت أنا ذلك مرة -، فالكتاب مكتوب بلغة شاعرية تبدو وكأنها لا تتناسب مع الموضوع المتجهم، ولكن هذا هو ما أراده ماركيز، جمع المتناقضات في هذه الرواية، فموضوعة الرواية الأساس ليست سطوة الديكتاتور ولا جرائمه – رغم أن الكتاب يغص بها -، وإنما هي عزلة الديكتاتور، إلى درجة أن صديق ماركيز عمر توريخوس ديكتاتور باناما قال عندما قرأها "إنها حقيقية، كلنا هكذا".
الرواية مكتوبة بأسلوب ماركيز الغرائبي، والضمير يتغير أحياناً وسط السرد، والحدث الذي تعود له الرواية بطريقة غريبة هو اكتشاف جثة الديكتاتور وقد أكلتها العقبان، ولكننا مع القراءة لا نغدو متأكدين من موته، بل يبدو الديكتاتور خالداً، ففي كل مرة نظن أنه مات أو قتل يظهر من جديد، وكأنها إشارة إلى أن وراء كل ديكتاتور، ديكتاتور جديد.
ترعبنا جرائم الديكتاتور، وما يرتكبه نظامه من قتل وتنكيل، ويمر بنا رجاله الذين يقضي عليهم عندما تنتهي الحاجة لهم ويتلطخون كثيراً، وتمر بنا النساء اللواتي يحضرن في حياته، من أمه التي حاول أن يجعلها قديسة بعد موتها، إلى الراهبة التي اختطفها وجعلها امرأته، وحتى الطالبة الصغيرة التي أخذها إلى سريره.
إنه الديكتاتور ذو اليدين الناعمتين كيدي امرأة – إشارة إلى ستالين -، ببزته ومعاركه ووحدته الخانقة، التي تخنقنا نحن كقراء، حيث لا نجد في الرواية ذلك التواصل الإنساني الذي يعكسه حوار ما، أي حوار ولو كان تافهاً.
رواية عظيمة، كانت عمل ماركيز الكبير التالي بعد (مئة عام من العزلة)، وقد أكدت مكانته وموهبته.
لا يوجد مراجعات