تعال قل لي كيف تعيش
تركت "أغاثا كريستي (1890- 1976) إرثاً غنياً من الروايات والمسرحيات البوليسية الأكثر إنتشاراً في الأدب العالمي الحديث، وكانت حياتها عاصفة لا تهدأ، فمع شغفها المتواصل بالكتابة اليومية كانت تطوف حول العالم بكل أنواع وسائل النقل، لتعرف كل وجوه الحياة في العالم، وتكتشف كل ما هو غريب أو جميل أو عجيب أو مخيف، في الطبيعة والمدن والشواطئ والجزر وسكانها وتقاليدهم وطباعهم، وقادها بحثها عن الماضي إلى معاينة المكتشفات الأثرية في الشرق، في مصر والعراق وسوريا، والتقت عام 1930، بين أطلال مدينة أور بخبير الآثار ماكس مالوان فتزوجا، وعملا معاً في الحفريات الاثرية في نينوى وأور ونمرود والأربجية، وفي عامي 1937 و1938 قاد مالوان وأغاثا ورشة تنقيب في حوض نهر الخابور، في تل شاغر بازار قرب عامودا، وتل براك في منتصف الطريق بين الحسكة والقامشلي، وكانت أغاثا ترصد كل المتاعب والأحداث والشخصيات والمفاجآت التي مرت بها من بريطانيا إلى بيروت وحمص ودمشق وتدمر وحلب ودير الزور، وذهلت من كثرة التلال المتناثرة في الجزيرة السورية، وهي أكثر مئة تل، ولكن عشقها انصب على تل براك، بعد أن كشف عن أسراره المخبأة منذ ستة قرون، بما فيها القصر و"معبد العين" برموزه الساحرة، التي تليق بعاصمة متحضرة في زمنها البعيد، وهي وقفة حالمة أمام التل طرحت عليه السؤال: تعال قل لي كيف تعيش؟ ثم كتبت جوابه في قصيدة.
كانت أغاثا تعرف كل العمال في الورشة وترصد طباعهم وتعالج نساءهم وأولادهم، وحينما نشب خلاف بين أحد الإيزيديين وعامل آخر أنصفت العامل الإيزيدي وكتبت أنها عرفت الإيزيديين عن قرب، حينما كانت تعمل في شمال العراق، حيث تبادلت الزيارة مع المير، رئيس الإيزيديين، فكتبت عن مقام الشيخ عدي: "أعتقد أنه لا يوجد في العالم مكان بجماله وسكينته... والطبيعة البشرية هناك على درجة من النقاء يمكن معها للنساء المسيحيات أن يسبحن عاريات في الجداول"، كما قامت بزيارة شيخ جبل سنجار حمو شيرو الذي أنقذ مئات المهاجرين الأرمن من الموت.
في عام 1950 بدأت أغاثا كتابة سيرتها الذاتية في منزل هادئ في موقع النمرود، وفيها سرد عاطفي لذكرياتها في العراق "كيف أحببت كثيراً هذا الجزء من العالم..."، كما كتبت روايتين استوحتهما من تلك الذكريات وهما "جريمة بين النهرين" و"الذين صلوا بغداد".
مدن قديمة متحضرة أحبتها أغاثا كريستي، وعاشت بين أطلالها، دمرها وأحرقها غزاة همجيون وبرابرة، منذ عدة قرون، وما يزال أحفادهم يعيشون معنا يزرعون الموت، ويدمرون المدن الجديدة وآثار المدن القديمة، ويرفعون رايات النصر.
"بندر عبد الحميد"
لا يوجد مراجعات