اسبينوزا: الفلسفة الأخلاقية
يهدف هذا البحث فيما يهدف إليه، العثور على اليقين الأخلاقي، تمهيداً لتبني موقفاً يرى أن الأخلاق التي لا تحقق إنسانية الإنسان ليست أخلاقاً ولا تدخل في صميم الفعل الأخلاقي الذي يهدف إلى خلق حالة من الإنسجام الطبيعي التوافقي بين الإنسان من جهة، وبين كل مساعيه الخيرة في الوجود عبر الإيمان بالقيم الأخلاقية التي تجعل الإنسان أخلاقياً في معارفه الدنيوية وفي مساعيه المسلكية، وفي تعامله مع غيره وفي نظرته للحياة عموماً.
فعندما يتحلى الفرد بأخلاق التسامح ويجد أن هذه الأخلاق تعتبر قيماً سامية فأنه في هذه الأخلاق يبني جسراً من التواصل الإنساني الجميل مع الناس بعيداً عن طبيعة الفروقات الطبقية أو الإجتماعية أو الإنتماءات الدينية. وذلك حينما تتمثل الأخلاق في البحث عن الفضيلة عبر تقصي سبل القيم المعرفية لها، فإن الإنسان هنا يريد أن يؤسس إتجاهاً في الحياة يقوم على أن الفضيلة تعني فيما تعنيه البحث عن أفضل السبل لرقي الإنسان عن طريق المعرفة العلمية، لذلك فإن الجهل هو واحد من مصادر الشر التي تحيط بالإنسان، وهادم كبير للأخلاق، من هنا يمكن صياغة السؤال المركزي في هذا البحث: هل يمكن أن نجد في العلم، الذي فرض نفسه بقوة في الحياة العامة للإنسان، وذلك اليقين الأخلاقي الذي نبحث عنه؟ أو، بتعبير آخر، هل يمكن أن تقوم أخلاق على أساس علمي؟، ولأن بداية هذه المساءلة الفلسفية كانت في العصر الحديث بالتحديد، فليس هناك في الإتجاه الفلسفي العقلاني لهذا العصر فلسفة أخلاقية استفادت من التطور العلمي الحديث في مجال الأخلاق، وأن الرؤية الأخلاقية لكل من كيبلر وديكارت لم تخرج عن نطاق المفاهيم المثالية المطلقة وكذلك الأمر بالنسبة لبقية أعلام العقلانية الحديثة، ولكن في مقابل ذلك ولد إتجاه من رحم العقلانية مغاير للإتجاه اللاهوتي السابق، ومن أبرز أعلام هذا الإتجاه كان بندكت باروخ سبينوزا، الفيلسوف الهولندي.
من هنا جاء اختيار الباحث لـــ"سبينوزا" موضوعاً لدراسته هذه كونه قدم مشروعاً فلسفياً أخلاقياً مستنداً على الحقائق العلمية، بعيداً عن المفاهيم اللاهوتية الميتافيزياقية الغامضة التي تتجاوز حدود العقل، وعليه كان موضوع الدراسة تحديداً تلك الأسس العلمية التي قامت عليها فلسفته الأخلاقية.
وهكذا ، إن المشكلة المطروحة هي فقدان اليقين الأخلاقي ، حيث أن الممارسة الفعلية للأخلاق تقتضي يقينا أخلاقيا تتأسس عليه . واليقين الأخلاقي هو إحساس ذاتي في الفرد بأنه يملك حقيقة ما هو فاضل ورذيل ، طيب وخبيث ن لائق وغير لئق : فهو قاعدة للأفعال الإنسانية ، وهكذا فأن فقدان اليقين الأخلاقي في مستوياته الفردية والجماعية ، هو الذي يبرر التفكير الفلسفي في المسألة الخلقية .
ولقد حاولت فلسفة الأخلاق عبر تاريخها أن تؤسس لهذه المشروعية المفقودة ، إما على إرادة إلهية تكون مصدرا متعاليل للقيم ، وإما على إرادة إنسانية حرة مسؤولة . ودار السؤال حول محورين : هل تعتبر الأخلاق طاقة كامنة في الذات الإنسانية ومنسجمة معها ، أم هي نتيجة تشريعات معينة تبنتها رسالات ذات طابع سماوي أم هي تشريعات فرضتها القةانين الاجتماعية التي تعاقب الإنسان على إيجادها وتفعيلها عبر مراحل تطوره .
يهدف هذا البحث الى العثور على اليقين الأخلاقي ، تمهيدا لتبني موقفا يرى أن الأخلاق التي لاتحقق إنسانية الإنسان ليست أخلاقا ولا تدخل في صميم الفعل الأخلاقي الذي يهدف إلى خلق حالة من الآنسجام الطبيعي التوافقي بين الانسان من جهة وبين كل مساعيه في الوجود عبر الإيمان بالقيم الأخلاقية التي تجعل من الانسان أخلاقيا في معارفه وفي مساعيه وفي تعامله مع غيره وفي نظرته للحياة عموما .
لا يوجد مراجعات