مصائر / كونشرتو الهولوكوست والنكبة
"أوقف جميل سيارته الــ "سوبارو"، فضية اللون، خلف جدار من بقايا سوق الخضار القديم من المجدل عسقلان، تناثرنا أربعتنا، أنا وجولي وجميل ولودا، خارج السيارة في إتجاهات نجهلها، رحت أبحث عني، تاركاً الآخرين يبحثون لي عني أيضاً، عن بيت له طعم الماضي، بيت والديّ الذي شهد ولادتي واحتفى بها هنا، أو هناك، أو لعله هناك، أو في أي هنا أو هناك، فتشتت بعينين دامعتين بين خراب المدين عن طفولتي الأولى فلم أجدها بكيت لي ولطفولتي، عليّ وعليها، أوقفت مشاعري على رأسها لبعض الوقت. أخرجت هاتفي الجوال من جيبي وهاتفت أمي، حدثتها بكلام غسلته بدموعي، وزينته بمفرداتها، ورشتت عليها نكهتها التي تربيت عليها: "مرحباً يمّة!" السلام عليكم... مين معايا.. كإنك وليد!... وليد؟... مرحبتين يمّه وألف حمد الله ع السلامة يا حبيبي وين أنت؟".... "كيف حالك يمه... أني في المجدل"... "هييييه، أمانة الله؟ وإيمتن أوصلت يمه؟ معناتو الله راظي عليك يمّه، والله الرّوحة ع المِجْدل مثل الحِجّة ع بيت الله عشر مرات، طب وين في المجدل وايش بتعمل؟...
"في الساحة يمّه... إقبال الجامع ع حفّت السوق القديم" بصلاة محمد سيد الأنبياء والمرسلين، إذا أنت يا وليد ابني وأني أمك، تبوس لي حيطان الجامع، وإذا ما لقيت حيط دوّر ع حجر وبوسه، وما تنساش تُعْبر الجامع جوّه إذا بعدو موجود، وتصلي ركعتين، إني عارفاك بتصليش... بدكيش اتصلي إلك بلاش، إنت حرّ منّك لربّك، بس صلي لإمّك بينوبك ثواب، الركعة في فلسطين بألف ركعة في الدار يمّه، وحتى في جامع المخيم... ايش مفكر أنت!... بتتذكري يمّه وين كنت ساكنة قبل الهجرة؟.... بتذكري بيتنا؟... "هايمه إيش بدونيسّيني؟ يا وَرَديه عليّ يمّه هو أني بنس البيت اللي اتجوّزت فيه وخلّفتك فيه! قطيعة تقطع اليهود اللي حرمونا منّه". "وين بقا بيتنا؟"، "إذا كنت واقف إقبال الجامع زي ما بتقول وبتطلّع عليه، بيتنا بكون وراك دُغري، فوق، فوق شويه في راس الطلعة، لقدام شويه، إفتل حالك ودير ظهرك بتشوفه، الله وكيلك أول بيت في راس الطلعة". "فتلت حالي". خلفي أرض نظّفتها جرافات "كاتربلر" الأميركية من ملامحها.
بضع مكبات نفايات وضعت عند طرفها القريب من السوق القديم، لسعت سخونة دمعي مشاعر جميل الذي تظاهر بالإنشغال في البحث عما أعرف أنه لا يعرفه، لم يكن ما وضعته أمي سوى أرض جرداء يصعب التأكد من أن بيوتنا كانت قائمة عليها ذات يوم، عدت أتأمل، بمرارة، ما تبقى من الجامع الكبير الذي بناه الأمير المملوكي، سيف الدين سلار عام 1300، مئذنة ترتفع قليلاً عند زاويته اليسرى مثل منارة قديمة هجرتها السفن، بضع قباب بدت مثل طاقيات من الصوف شاحبة اللون، وقد تآكل وبرها، قطعت الشارع قفزاً إلى الرصيف الآخر، وقفت قبالة مدخل يعلوه اسمه الغريب "خان اشكلون موزيم".
على جانبيه محلات صغيرة و"مسعداه" (مطعم)، تسبقه ساحة من بضع مظلات قماشية خضراء سميكة وكراسي، يا إلهي... كيف أصلي ركعتين أنذرهما لأمي من مسجد أصبح متحفاً وحانه؟!... صرخت في أعماقي التي لا يسمعها غيري، واستدرت لأزيج المشهد كله بعيداً عن عيني، وتجولت بنظري في شارع طويل ينتهي بمنازل كانت من طابقين، ما زال أسفلها يجعل بقايا بعض ما كان يعلوه، في خلفية الشارع إلى اليسار، ثلاث نخلات.
عمتي كانت هناك، تنتظرني قرب نخلتها، تحملني وتأخذ يدي الصغيرة بيدها وتقطف البلح، كانت للبيت "عليّه" طابق ثان أخذتني أمي إليه ذات مرة، حملتني على كتفيها حين كانت لها كتفان تحملان، وصعدت بي سلالم رخامية تنتهي بفسحة مبلطة تسبق غرفتين، داعبت رأسي عنا قيد بلح أحمر، عمتي ليست هنا، عمتي هناك، عمتي ليست هناك، عمتي ماتت في خان يونس، هناك في بيت على حافة مخيم لاجئين؛ لم أجد أثراً لها حين زرت المقابر القديمة في المدينة قبل سنوات، ولا حتى حرفاً من اسمها انفصل عن شاهد قبرها وانتظرني ليدلّني عليها...
نغادر أوطاننا... ولا تغادرنا نعيشها ونموت بعيداً عنها ونعود رمثاً يمتزج بترابها... الغربة... والإغتراب القسري لإجتثاث الإنسان من جذوره مأساة تدور حولها أحداث هذه الرواية، تحت الأرمنية الفلسطينية إيفانا أردكيان طبيباً بريطانياً في زمن الإنتداب الفلسطيني، تهرب من عكا القديمة، تتزوجه، وتنجب بنتاً وترحل بها إلى لندن عام 1948، توصي إيفانا قبل وفاتها بحرق جثتها، وأخذ جزء من رمادها إلى مسقط رأسها في عكا القديمة، أو إلى القدس.
تتوالى الأحداث وتبرز شخصيات أخرى ليبقى طيف لوعة الوطن... فلسطين السليبة موشّحاً مناخات المصائر بالحزن والسواد.