في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها
سيتأرجح أفلاطون وأرسطو. فالأول الذي رأى أن موجودات الواقع المادي ما هي إلا صورة ناقصة وغير مكتملة لعالم المثل العلوي التام هو نفسه الذي رأى بأن الفلاسفة هم أفضل من يرعى شؤون الحياة العملية.. سياسة البشر وحكمهم، ان افلاطون الذي كتب محاورة فيدون ليتحدث عن الروح هو أيضاً الذي خطط نظاماً لحياة الانسان السياسي على الأرض في كتابه الجمهورية، أما أرسطو الذي وجد في الأنطولوجيا الفلسفة الأولى، هو نفسه الذي تحدث بالمقابل عن الانسان كحيوان اجتماعي سياسي والذي كرس له مؤلفه المعروف في السياسة. بهذا الشكل المتأرجح الذي يراوح بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية سيستمد الحراك الفلسفي في أوروبا وعقد معظم الفلاسفة الذين جاؤوا بعد أرسطو. ولو ضربنا صفحاً عن الانتاج الفلسفي في العصور الوسطى حيث كان فلاسفة تلك الحقبة "يعرفون خريطة الفردوس أكثر من كتاب"، فإننا سنجد أن الفلاسفة الحديثين قد انشغلوا بالأسئلة " هل يمكن للفلسفة أن تساهم في فهم عالمها وتغييره؟ وإذا كان الجواب بالسلبي، فلماذا الفلسفة اذن؟ ولماذا تستحوذ على عقول الكثيرين وقلوبهم بل وحياتهم رغم وعورة مسالكها ووحشة مساكنها وعزلة أبطالها؟ وإذا لم تتناول الفلسفة قضايا الانسان ومشاكله فهل علينا أن نحرّف كتبها كما طالب ديفيد هيوم أن نفعل بكتب الميتافيزيقا؟ وكيف سنبرر عندها المجلدات التي كتبت في الأنطولوجيا والميتافيزقيا والجمال والمنطق؟... لقد قال شيشيرون بأن سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء الى الأرض. أي أن اهتمام الفلسفة قد تحول في الحقبة السقراطية من التساؤل عن مبدأ الوجود الأول وأصل الكون الى التساؤل عن الانسان ومعرفته لذاته. لا شك أن سؤال الانسان في تلك الحقبة (القرن الخامس قبل الميلاد) كان الموضوع الأساسي لاهتمام الفلسفة. فعلى معبد "دلف" نقشت العبارة المشهورة: اعرف نفسك بنفسك، وكان السفسطاني الشهير بروتاغوراس قد أعلن عقدها أن الانسان هو مقياس جميع الأشياء. بين السماء والأرض الفلسفية الخالصة كسؤال المعرفة بقدر ما اهتموا بمسائل الانسان و مشاكله السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وبمعنى آخر الفلسفة العملية..."، ضمن هذه المناخات يمضي الباحث في عمله بحثاً عن مفارقات النصوص والإشكاليات الفلسفية حول اشكاليتي "الحداثة وما بعدها وقد كان ذلك نتاج مجموعة من الأبحاث والدراسات والمقالات والنصوص والحوارات والسجالات والنقاشات التي أعيد تجميعها من هذا الكتاب. أما لماذا المفارقات؟ في الحقيقة فإن الباحث لا يخفي افتنانه بكشف المتناقضات ورؤية الأبيض والأسود واكتشاف اليمين من اليسار، والفوق في التحت والقبيح في الجميل أو العكس. اذن، وكما يقول، ليس هو من مناصري ايديولوجيا الذين يعرفون بطمأنينة قلب بحسدون عليها ما هو الصحيح، كما أنه لا يحب الانتماء الى أولئك الذين يمشون على الصراط المستقيم ويرون العالم بلون واحد.. أما لماذا الفلسفة؟.. فلأن التفلسف بالنسبة له هو "مؤسسة" ديموقراطية كاملة، والديموقراطية كما يفهما هي اعتراف بالاختلاف وليس تحزباً في صف واحد... أما لماذا الحداثة وما بعدها؟ فلأن اهتمامه ومنذ سنوات منصرف الى الحداثة وما بعدها على الصعيدين الشخصي والأكاديمي بإشكاليتي الحداثة وما بعد الحداثة.
لا يوجد مراجعات