الدون الهادئ ١\٤
"كان بيت ميليخوف يقع عند طرق القرية الأقصى، وكانت بوابة زريبة الماشية تفتح صوب الشمال بإتجاه الدون، ويأتي الشاطئ وراء منحدر وممر يمتد مسافة حوالي سبعة عشر متراً بين صخور طباشيرية ضخمة يغطيها الطحلب، وثمة أكوام لؤلؤية من قواقع المحار، وحافة رمادية اللون منكسرة قوامها الحصباء تلثمها الأمواج، ومن ثم وجه الدون الرقراق الفولاذي اللون، تلاعبه الريح، وإلى الشرق، وراء أسيجة من أغصان الصفصاف تحيط بساحات درس الحبوب، يمتد طريق هتمان، حيث يوجد نبات الشيح الرمادي، ونبات لسان الحمل المتصلب ذو اللون البني والذي هرسته حوافز الخيل، وثمة مصلى عند مفترق الطريق، ثم يأتي السهب مغلفاً بضباب متنقل، وإلى الجنوب، تمتد سلسلة من التلال الطباشرية، وإلى الغرب، هناك الشارع يقطع الساحة ميمماً صوب المروج الساحلية.
عاد القوفازي بروكوفي ميليخوف إلى القرية أثناء الحرب ما قبل الأخيرة مع تركيا، وقد جلب معه زوجة: إمرأة صغيرة متلفعة بشال من رأسها إلى قدمها، تعطي وجهها على الدوام، ونادراً ما تكشف عن عينيها الوحشيتين الحزينتين، وكان الشال الحريري يحمل عطوراً غريبة فواحة، وطرائزه الملونة بألوان قوس تثير حسد القوقازيات.
وظلت هذه الأسيرة التركية بعيدة عن اقارب بروكوفي، ولم يمض وقت طويل حتى أعطى ميليخوف العجوز لولده حصته من الإرث، وظل طيلة حياته يرفض أن يضع قدمه داخل بيت ابنه، ذلك لأنه لم يستطع أن ينسى ذاك العار، وسرعان ما تدبر بروكوفي أمره، فأقام له البخارون داراً، وصنع هو بنفسه سياجاً لساحة الماشية، وفي مطلع الخريف أخذ زوجته الأجنبية محنية الرأس إلى دارها الجديدة.
وقد سار معها خلال القرية وراء العربة المحملة بما لديها من متاع الدنيا، فاندفع الجميع، شيباً وشباناً، إلى الشارع، وكتم الرجال ضحكاتهم وراء لحاهم، وتناقلت النسوة تعليقات مسموعة، بينما اندفع سرب من أطفال القوقاز الوسخين يزعقون خلف بروكوفي، ولكنه واصل سيره بطيئاً، بمعطفه مفتوح الأزرار، وكأنه يترسم أرضاً حدثت توّاً، وهو يعصر معصم زوجته الرقيق بكفه السوداء الضخمة، رافعاً رأسه ذا الناصية الشقراء، في تحدٍّ وإستخفاف، سوى أن أكياسه الدهنية تحت عظام خديه انتفخت وارتعشت، وتفصد العرق بين حاجبيه المقطبين دائماً.
منذ ذلك الحين لم يقع عليه نظر إنسان إلا نادراً، ولم يحضر هو لقاءات القوقاز بناتاً، وعاش حياة عزلة في داره المنفردة على جانب الدون، ورويت عنه حكايات غريبة في القرية... مثل ظهور المجلد الأول من "الدون الهادئ" حدثاً كبيراً للأدب السوفييتي الفتي بأسره فقد كان ميخائيل شولوخوف عند صدوره في الثالثة والعشرين من عمره، وقال عنه وبعد قراءته لهذا المجلد للدون الهادئ "أنه يكتب كقوزاقي عاشق للدون، ولحياة القوزاق - وللطبيعة".
في رواية شولوخوف هذه بالذات، انفتح إقليم الدون على الأدب العالمي بشكل حقيقي، وأصبحت منطقة الدون جزءاً لا يمكن فصله عن اسم شولوخوف، مثلما لا يمكن فصل الدنيبو عن غوغول، منطقة ريازين عن يسينين، والغولغا عن غوركي.
وإلى هذا فإن "الدون الهادئ" هو ذات قيمة هائلة للمؤرخ والمختص بالإقتصاد السياسي، والفيسلوف، ولعالم الإجتماع، ومع ذلك فإن كشف الفنان الكبير للنفس الإنسانية هو أعلى من كل الحقائق الأخرى، إن المعرفة بالخلق القوزاقي، والعادات، والقوة المالية، والمطامح الرفيعة لهؤلاء، ليس بمجموعهم فقط، بل ولكل شخص على إنفراد، هي وحدها تتيح للقارئ الفهم فهماً كاملاً لماذا كان من الممكن أن ينشأ، وتحت سقف واحد، أشخاص متباينون، مثل بيتر ميليخوف، وغروغوري وميليخوف، ومثل ميتكا الجزار وناتاليا الطاهرة النفس من آل كورشو نوف.
ومن ناحية الشكل الفني، غالباً ما يصنف "دون الهادئ" كملحمة شعبية، وعلى هذا المستوى يجب أن يفهم كل شيء في هذا العمل، بمجلداته الأربعة، تضم الرواية أكثر من 600 شخصية وجميعهم على مستوى من الأهمية، فمن خلالهم بإمكان القارئ فهم وبعمق وبشكل صادق تلك الشخصية المعقدة من الشعب، الباحثة بعذاب عن موقعها في الثورة، فغريغوري ميليخوف، الشخصية المحورية، مرتبط، بهذا الشكل أو بالآخر، أو بتلك الشخصية، أو هذه الأخرى، وحتى بأولئك الذين لم يلتق بهم بشكل مباشر أبداً، في تعقيدات الأحداث العاصفة.
وعلى خلفية مصائر كل هذه الشخصيات الستمائة في "الدون الهادئ" (وشخصيات مثل بونتشوك أو ميشكا كوشيفوي قبل كل شيء) يمكن فهم تاريخ حياة غريفوري نفسه، تلك الفكرة العميقة التي وضعها الروائي في هذه الشخصية الرائعة حقاً.
ومع مرور السنين، تكشف رواية شولوخوف أمام القارئ المزيد والمزيد من أبعادها الجديدة ذات الدلالة، كما المزيد من المواضيع والقضايا والصراعات والمشاكل الإجتماعية والمعاشية المحضة التي لم يلحظها النقاد من قبل، ولا بد من القول بأن ما زال هناك وإلى الآن جدل إبداعي يدور حول "الدون الهادئ" منذ العام 1928 لا ينقطع، فالرواية هي نفسها، إلا أن الأسئلة التي تبرز في مجرى النقاش، في العقود المتعاقبة تبدو مختلفة.
لا يوجد مراجعات