الاسلمة سياسية في العراق رؤية نفسية
لا يملك أي باحث في العلوم الإجتماعية اليوم إلا أن يقف متأملاً أمام حقيقة أن الدين قد أصبح متموضعاً في قلب الحدث السياسي المتحكم في مصائر ملايين الناس في بلدان الشرق الأوسط ومحيطه.
ويقصد بهذا المتموضع أن الهوية السياسية لكل من السلطة والدولة في أغلب هذه البلدان أخذت في التحول التدريجي أو المفاجئ من العلماني الإستبدادية التقليدية التي ارتبطت تاريخياً بالفساد والقمع والظلم الإجتماعي، إلى هوية إسلاموية تلهج بديموقراطية ضبابية لا ترى في السلطة أو الدولة إلا خياراً من خيارات الحكم الإلهي الواجب فرضه على المجتمع، آخذين بالإعتبار وجود فروقات في درجات هذه الهوية بحسب نسبية أوضاع البلدان التي جرت فيها هذه التحولات، ومنها العراق وتونس ومصر وليبيا.
فبذور التغيير والثورة على حكومات الإستبداد العربية زرعها الليبراليون والديموقراطيون واليساريون والقوميون والمثقفون التنويريون على مدى عقود طويلة تلت الحرب العالمية الأولى من دون جدوى حقيقية، إذ تحررت بلدان آنذاك من قبضة الإحتلالات الإنجليزية والفرنسية لتحلّ محلها أوليفارشيات اختزلت الوجود الإجتماعي لشعوبها بنياشين جنرالاتها ونرجسية أوهامهم "البطولية"، وتهاوت ملكيات فاسدة لتنشأ على أنقاضها جمهوريات أكثر فساداً، ثم جاءت ثورة المعلومات والإتصالات مؤخراً لتستنطق تلك البذور الكامنة وتحييها مجدداً بدماء شبية "الربيع العربي" دعاة العدل الإجتماعي ودولة الحقوق المدنية العاملة.
إلا أن قطاف الثمار الناضجة بات يسقط في ما يبدو من دون عناء كبير في سلة اللاهوتيين الشوخ ومنظري الدين السياسي الخارجين للتوّ من ظلمة معابدهم الآمنة إلى نور الحياة والتغيير إذ كان التأريخ الإجتماعي إستدار إلى الخلف ليسطّر قصة التقدم والتحرر والإنعتاق بتسلسل معكوس.
إن سؤالاً جوهرياً سيظل يواجهنا لعقود: أهودين أم تديّن أم تديين؟ أهو الإسلام أم تأسلم أم أسلمة؟ أهودين أيديولوجي محدد العقائد والغايات في أذهان متنقيه؟ أم هو صورة إدراكية سيكولوجية حمّالة أو وجهٍ حدّ التشظي، ونحو كل وجه منها يتجه جمهور محروم ومتعصب ومتعطش لأي يقين يريحه من أزمته الهوياتية المتفاقمة في عصر عولمي، تهيمن فيه أصنام التكنولوجيا وتنحسر العقلانية وتسود اللامعيارية؟!...
العراق افتتح القرن الحادي والعشرين بتجربة الدين السياسي الحاكم، إذ سقط نظامه الإستبدادي السابق على يد حملة عسكرية غازية قادها جيش الولايات المتحدة الأميركية في نيسان 2003 وانبثق من أثرها ما صار يعرف بنظام "الطائفية السياسية" القائم على أساس ديني بالدرجة الأولى، وعرفي بالدرجة الثانية...
وإلى هذا فإن العراق يعايش اليوم توغلاً توغلاً إسلاموياً أبعد من ذلك، إذ بات يشهد اليوم ما صار يصطلح عليه بـ"الأسلمة"، والمقصود هنا بالأسلمة (أو التديين): نزع الصفة البيولوجية أو الإجتماعية التطورية عن الحدث، والباسه هوية ما ورائية مطلقة تتجاهل نسبية عناصر للمكان والزمان؛ لينال "قدسية" التأسلم.
ضمن هذه المقاربة تأتي مجموعة مقالات وأوراق هذا الكتاب الفكرية والتي كتبت خلال السنوات الأربع الماضية إبتداء من العام 2008م، ورتبت بحسب تسلسلها المضموني والفكري لا الزمني، ما يجمعها هو سعيها لتقديم تفسير متعدد الأبعاد والزوايا لكيفية تفاعل سيكولوجيا الدين بسيكولوجيا السياسة لإنتاج ظواهر سلوكية مجتمعية مهمة، من ضمنها أنماط لشخصيات إجتماعية بدأت بالبروز تباعاً بعد نسيان 2003، من دون إغفال ما لتلك الظواهر وأنماط الشخصية من صلات نشوئية بعموم تأريخ العراق المعاصر الذي سبق تلك الحقبة.
وبعبارة أخرى، فإن ما تحاول الأطروحة المركزية للكتاب، والتي سيتم شرحها وتوضيح أبعادها هو القول بأن محاولة فرض الأسلمة السياسية على المجتمع العراقي، هو خيار يقع في الضدّ من النزعة "العلمانية الإجتماعية" الراسخة لهذا المجتمع، لذلك أحد الأسباب الرئيسة المفسرة لإستمرار مسلسل الصراع السياسي الدموي في العراق هو محاولة تطييف المجتمع العراقي قسراً عبر إخراجه من هويته المسلمة المسالمة بمذهبيها المتعايشين أي السنة والشيعة.
لا يوجد مراجعات