فن المقامة في القرن السادس
كان لازدهار فن المقامة في القرن السادس الهجري أسباب، منها ماهو سياسي واجتماعي،وإلى جانب ذلك أسباب ثقافية لا تقل عنها تأثيرا إن لم تفقها، تركت آثارها في جمهور المتلقين للعمل الأدبي،وجمهور الأدباء أنفسهم.
ويرى د.حسن عباس أن أول هذه الأسباب: هو هبوط منزلة الشعر، فقد اشتعلت نار الحرب في كل مكان من الأرض العربية، وتشاغل الناس بالحرب وويلاتها عن التغني بالشعر والتحليق معه في آفاق الخيال،فقد كان واقعهم المرير كفيلا بردهم عن ذلك،على عكس القرون الأولى التي كانت الحروب فيها سببا في مساجلات شعرية لا تقل خطورة في نفوس العامة والخاصة عن المعارك الحقيقية التي تدور بين الفريقين، أما في حروب هذا القرن فلا، فلم تكن الحرب بين المسلمين والصليبيين في الشام والأندلس حربا مذهبية تقوم على أسس فلسفية يمكن للشعر أن يتناولها بالنقاش والتفنيد، ولم يكن لينهض من جانب الفريق الآخر شعراء يمكن أن يرد على دعواهم، فالقوم لا يعرفون العربية، وإنما يتحدثون لغة أو لغات أخرى.
كما أن المسلمين لم يستطيعوا أن يحققوا انتصارا باهرا مؤكدا في هذه الحروب يمكن أن يطلق الشعر الحبيس من عقاله، فانتصار اليوم كانت تهدمه هزيمة الغد، وكان الانتصار في مكان ينسخه الاندحار في غيره.
والثاني: أن أكثر حكام وأمراء تلك الفترة كانوا من غير العرب:
فقد كانت الغلبة في فارس والعراق والشام للسلاجقة الذين مدوا سلطانهم فيما بعد إلى مصر واليمن والحجاز، كما كانت الغلبة في المغرب والأندلس للبربر،وكان أكثرهم لا يحسن اللسان العربي فضلا عن تذوق الشعر العربي،ولا أدل على ذلك مما يروى عن ابن تاشفين، فإنه عندما عبر إلى الأندلس معينا لملوك الطوائف أنشده جماعة من الشعراء بتوسط المعتمد بن عباد، فسأله المعتمد: " أيعلم أمير المسلمين ماقالوه؟ قال: لا أعلم،ولكنهم يطلبون الخبز " فلما انصرف إلى إشبيلية كُتِب إليه:
بنتم وبنا،فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينــا
فلما قرئ عليه البيتان قال للقارئ: " يطلب منا جواري سودا وبيضا؟ قال: لا يامولانا،ماأراد إلا أن ليله بقرب أمير المؤمنين نهارا؛ لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلا؛ لأن أيام الحزن ليال سود، فقال: والله جيد،اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه، ورؤسنا توجعنا من بعده.
ولا شك أن هذا الجهل الفاضح بالعربية حال بين هؤلاء الحكام وبين تقدير الشعر وأهله،ففقد الشعراء بذلك الرعاية التي طالما أحيطوا بها من الحكام العرب وغير العرب في العصور السالفة،فتفرغوا لفنهم وأبدعوا فيه ماشاء لهم الإبداع.
لا يوجد مراجعات