قراءات في فلسفة العلوم
إن العلم قابل بطبيعته لأن يميز وظيفياً، بقدر ما هو قابل بمقتضى ذات الطبيعة لأن يميز منهجياً-عبر تباين السبل التي يتعين على ممارسيه انتهاجها إبان قيامهم بتلك المهمة، على هكذا نحو يلعب مفهوم التعليل دوراً مركزياً في تحديد وجهة ذلك النشاط، كما يلعب مفهوم المنهج دوراُ لا يقل مركزية في تعيين مسار تلك الوجهة، إن مكمن أهمية هذا الكتاب إما ترجع إلى كونه يعني على نحو الخصوص بذلك المفهومين.
بيد أنه لا يقتصر فحسب على تبيان دلالات التعليل والمنهج، بل يثير قضايا من شأن حسم أمرها أن ينير العتمة التي تكتنف أسس العلم على وجه العموم، كلنا يعلم أن النشاط العلمي يروم تعليل الظواهر التي يقوم بدراستها، ويخلص إلى نظريات قادرة على الإفصاح عن قواها التفسيرية. ولكن ما الذي تتضمنه على وجه الضبط مثل تلك النظريات؟
ما الذي يجعل القانون قانوناً، وهل يرتهن كونه قانوناُ بإدراكنا له بوصفه كذلك أو بتوظيفه في السياقات التعليلية، أم أن قانونية القانون أمر انطولوجي لا يأبه لأي إدراك أو توظيف بشري؟ ما الذي يهب القانون أصلاً القدرة على التعليل وما الفرق بين القانون الطبيعي والقانون العلمي؟ ثم ماذا عن التعليلات الاجتماعية التي لا تقوى على ضمان حدوث ما تتنبأ بوقوعه مكتفية بأرجحيته؟ أتراها مؤسسة بدورها على قوانين احتمالية، أم أن الحديث في هذا السياق عن مفهوم الاحتمال ضرب من الإفصاح عن الجهل بالتوترات الكامنة خلف ما تم ملاحظته من ظواهر؟
وأخيراً إلى أي مدى يتسق تعليل الظواهر في سياق العلوم الفيزيائية مع تعليلها في سياق العلوم البيولوجية التي تعول على دراسة الكائنات الحية من منظور وظيفي؟ تلك هي بعض الأسئلة التي يثيرها مفهوم التعليل والتي يتم نقاشها والجدل حول أمثل السبل للإجابة عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب. أما الجزء الثاني فقد كرّس لنقاش مفهوم المنهج العلمي الذي يتكون من خطوات تبدأ من نقطة تحديد إشكالية البحث وتنتهي باستخلاص النتائج. والعلامة الفارقة لهذا المنهج إنما تكمن في كونه يتسم بطابع تدليلي ذي دلالة امبيريقية. هذا على وجه الضبط هو مكمن عقلانية النشاط العلمي ومسوغ مشروعيته.