معنى الحياة في العالم الحديث
يحظى "معنى الحياة " باهتمام كبير في خطابات نقد أزمات الحداثة وتحليل ارتباكات الهوية والذات في الزمن الحديث، فالتغيرات الرئيسية في تاريخ الغرب الحديث في نظم المعرفة وأنساق الوجود، ومصادر القيم والأخلاق، وبنى الاجتماع والثقافة؛ تركت آثارها الحاسمة على موقع الفرد داخل الزمان والمكان، فضيّقت العلمنة من أبعاد الوجود، وانحسرت تبعًا لذلك آفاق التاريخ الذي يعلو على الوجود المرئي، وبقي الإنسان وحيدًا أمام شرور العالم، يرزح تحت نقائصه المستشرية، ويكابد ليبتكر معنى لحياته وآلامه، ويختلق غاية يتعزّى ببلوغها عن كآبة الطريق.
ومنذ أواخر الستينيات من القرن العشرين؛ انبعثت موجة ثقافية جديدة كاسحة تروّج لأنماط حياة فردانية متطرّفة، وتشجّع على التمركز حول الذات، وتقديس رغبات الفرد الخاصة، والركض وراء الشغف الشخصي، والنجاح الفردي المستقلِّ، واتباع أسلوب حياة مرن وحركي ومتنقل، فكريًا وثقافيًا وعاطفيًا، مع تبخيس القيم المجتمعية، والتنديد بـ"القيود" الأسرية، فضلًا عن كوابح المعايير العقائدية.
وقد تبلورت هذه الموجة فيما سمي بـ"الثورة الفردانية الثالثة" التي ظهرت منذ نهاية التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، وهي تتمحور حول "حاجة المرء إلى إعادة إعطاء معنى لحياته الشخصية، عبر الاشتغال على الذات". ومع أن سؤال المعنى نشأ منذ بدايات الحداثة، إلا أنه أصبح ملحًا في العقود الأخيرة أكثر من أي وقت مضى، بل تحوّل إلى أزمة تهدد الهوية وسَوَاء الذات المعاصرة.
هذا الكتاب يهدف إلى تقصّي طرف من جذور أزمة المعنى، وفحص بعض خلفياتها التاريخية، وملامحها النفسانية، وتشريح تجلياتها ومظاهرها في البنية العاطفية وأنظمة العلاقات الإنسانية وتطورات الفنون الحديثة، وانعكاساتها على مفهوم الذات والموقف من الجسد والوعي بالزمن، ومعنى الألم والموت.
لا يوجد مراجعات