قيام وسقوط الرايخ الثالث 2/1
... ساد برلين توتر محموم في أول ساعة ولادة الرايخ الثالث… وبدا لكل امرئ تقريباً أن جمهورية (فايمر) على وشك السقوط، فهذه أكثر من سنة وهي تتداعى بسرعة مطردة.
فالجنرال كرت فون شلايخر الذي كان قليل الإكتراث بالجمهورية، وأقل إكتراثاً بالديموقراطية كسلفه فرانس فون بابن والذي حكم مثله مستشاراً بموجب مرسوم جمهوري دون أن يحوز ثقة البرلمان - انتهى حكمه بعد سبعة وخمسين يوماً فقط من تسلمه في نهار السبت الموافق 25 كانون الثاني 1933، أصدر الفيلدمارشال الهرم فون هندنبرك رئيس الجمهورية مرسوماً بتنحيته عن منصب المستشارية دون سابق إنذار.
وراح أدولف هتلر زعيم الإشتراكيين القوميين وهو أكبر الأحزاب السياسية في ألمانيا، يطلب لنفسه المستشارية في تلك الجمهورية التي حلف على تدميرها… وقبيل ظهر يوم الأثنين الموافق للثلاثين من كانون الثاني 1933 انطلق هتلر إلى قصر المستشارية لمقابلة (هندنبرك) الحاسمة له ولألمانيا وللعالم أجمع…
وكان كوبلز و(روهم) وغيرهما من أقطاب النازيين يشرئبون بأعناقهم من إحدى نوافذ كايزرهوق متطلعين بتعلق إلى باب المستشارية يرقبون موعد قدوم هتلر… وبعد دقائق قليلة شاهدوا المعجزة: هل الرجل ذو الشارب الشبيه بشارب شارلي شابلن الذي قضى أيام شبابه في فيينا يعيش عيشة المتشردين، ثم أصبح جندياً من جنود الحرب العظمى الأولى، وأحد المنبوذين في الأيام الأولى العصيبة لما بعد الحرب في ميونخ والزعيم المضحك لإنقلاب مشرب البيرة، هذا المشعوذ الذي لم يكن ألمانياً بل نمساوياً والبالغ من العمر ثلاثة وأربعين عاماً، قد خرج بعد أن أدى اليمين القانونية بوصفه مستشاراً للرايخ الألماني…
إن الرايخ الثالث الذي ولد في الثلاثين من كانون الثاني عام 1933، و"سيبقى ألف سنة كاملة" على ما فخر به هتلر متخذاً له تعبير "الرايخ الألفي"، لم يدم غير اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر، إلا أنه في هذه الفترة القصيرة جداً من عمر التاريخ أحدث إنفجاراً على الكرة الأرضية أشد عنفاً من أي إنفجار عرفته من قبل.
لقد رفع الشعب الألماني إلى أعلى عليين مما لم يره منذ ألف سنة أو أكثر وجعله سيد أوروبا من ساحل الأطلسي حتى ضفاف الفولكا، ومن القطب الشمالي حتى البحر الأبيض المتوسط، ثم هبط به إلى أسفل سافلين وقذف به إلى لجةٍ من الخراب والدمار في أعقاب حرب عالمية أثارها ذلك الشعب ببرودة دم، ومارس خلالها حكماً من الرعب والإرهاب على الشعوب المغلوبة فاق كل ما عرفته الأجيال السابقة من إضطهاد وحشي جرى وفق مجازر مخططة محسوبة لعشر بني البشر.
لا شك في أن هذا الرجل الذي أوجد الرايخ الثالث وحكمه بصرامة، وبذكاء غير عادي أحياناً، ثم ارتقى به إلى هذا الإرتفاع المخيف الذي يقطع الأنفاس ثم هوى به من حالق إلى تلك الهوة المريعة، كان من العباقرة، إلا أنها عبقرية شريرة…
لكن الثابت أنه ما كان ليظهر الرايخ الثالث إلى الوجود لولا شخصية "أدولف هتلر" التي اجتمع فيها الشر الشيطاني والإرادة الصخرية والقسوة الباردة والذكاء الباهر والخيال المفرط والغرائز التي لا تعرف حدوداً والأهلية الكفوءة للحكم على الأشخاص والظروف حكماً صائباً، تلك الأهلية التي لم تفارقه حتى النهاية عندما أثملته خمرة النصر والنجاح…
إنها إمبراطورية صنعها هتلر لنفسه يعرض قصتها هذا الكتاب بكل تفاصيلها ووقائعها، وهي واحدة من أهم قصص التاريخ تفرغ لكتابتها واحد من أعظم المثقفين المختصين وهو "ويليام شابور" لم يسبق لإمبراطورية جبارة أن خلفت كما خلف الرايخ الثالث أكداساً من الوثائق والمستندات للمؤرخين والمتتبعين، حول قيامها، وإنهيارها.
وحسبنا أن نذكر أن قيام الحلفاء بطلب الإستسلام دون قيد أو شرط، بعد طيّ آخر صفحة من صفحات القتال المرير وقبل تمكن النازيين من إتلاف وثائقهم وإحراق أضابيرهم، وقد زودنا بمستمسكات يمكن إحتساب تفاصيلها بالساعات عن الكابوس الرهيب الذي نشرته إمبراطورية هتلر.
كان ويليام شايرر، مؤلف هذا الكتاب، الذي ظل يرصد النازيين ويكتب عنهم منذ العام 1925، قد تفرغ لخمس سنوات وستة أشهر يغربل هذه الوثائق وينخلها نخلاً ليستخلص منها ومن التقارير الصحيفة عن الأحداث وقت وقوعها في ألمانيا وأوروبا معلومات مستفيضة طريفة عن فترة أربعين عاماً أو تزيد - ليقوم بهذه المهمة ويصنف منها هذا التأريخ الوثائقي الدقيق، لفصلٍ من أشدّ فصول تاريخ البشرية هولاً وإرهاباً.
يجد القارئ في هذا الكتاب قصة هتلر في حبه وسجنه وتعلقه بفنون الحرب وعنفه الجنوني الذي أدى به إلى تخريب بلاد طالما أدّعى بأنه يحبها حبّ العبادة، كما يجد فيه وثائق هيئة أركان الحرب الألمانية العليا وأهوال معسكرات الإعتقال والإرهاب البربري اللاسامي وتدهور قيم الشعب الألماني، والمقاومة الداخلية المتمثلة في المؤامرات التي حيكت للإطاحة بالنازية، لم يكن يعرف عنها من قبل إلا القليل.
وبالإضافة إلى ذلك، يجد القارئ أيضاً تفاصيل مدهشة مثيرة في الميثاق السوفييتي النازي للعام 1939 والمكائد التي دبرت لإسقاط الجنرالات الألمان الكبار والمجهودات المضحكة المخجلة التي بذلت لإسكات هتلر بإشباع أطماعه وفشل ألمانيا في غزو إنكلترا، وخطط هتلر لإختطاف الدوق وندسور وزوجته… إضافة إلى المئات من الوقائع السرية المتعلقة بالحرب.
لا يوجد مراجعات