النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية
من كتاب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) لـ (حسين مروَّة)، عن (دار الفارابي- بيروت)، طبعة (1981)- الجزء الأول صـ (145، 146، 147، 148).
ــــــــــــــ
"أما الماركسيون المتأخرون، والمعاصرون منهم- ولا سيما المستشرقون والباحثون السوفياتيون- فإن الصورة لديهم عن شكل العلاقات الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية، خلال القرنين الخامس والسادس للميلاد وفي مرحلة نشأة الإسلام، ليست صورة واحدة. مرجع ذلك- كما نعتقد- إلى أن المعطيات التاريخية عن تلك المرحلة من تاريخ العرب ليست بالمستوى الذي يمكن الباحث العلمي المعاصر من تكوين صورة واقعية كاملة تتمثل فيها طبيعة العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية بواقعها الحقيقي. إن هذا النقص مرده- بالدرجة الأولى- إلى طريقة المؤرخين العرب الأقرب عهدًا إلى تلك المرحلة، وهي طريقة تتسم بالانهماك في تفاصيل جانبية لا تمس ذلك الواقع إلال قليلاً. ولذا لم يبق للباحث المعاصر ولا سيما غير العربي، إلا أن يعتمد المؤلفات المتأخرة عن العصور الإسلامية الأولى، كمؤلف الشهرستاني الشهير (الملل والنحل)، أو كتابات الرحالين المحدثين وأصحاب الدراسات الحديثة، وهذه تنظر إلى ذلك الواقع القديم من مسافة زمنية تزيد عن أربعة عشرة قرنًا، فهي إذن لا تعرف الصورة إلا استنتاجًا من بقايا الماضي البعيد ومن مؤلفات القدماء غير الوافية. غير أن المستشرق الروسي السوفياتي أغناطيوس كراتشوفسكي الواسع المعرفة في مجال الدراسات العربية، جعل اعتماده الأوثق على الشعر الجاهلي من حيث كونه "أقدم أثر للغة العربية"، وكونه لذلك "بالنسبة لتاريخ تلك المرحلة ليس فقط أقدم الآثار، بل هو - في الحق- الأثر الوحيد الذي بقى لنا من تلك الحوادث التي يتناولها". من هنا يرى كراتشكوفسكي أن الشعر الجاهلي يمثل صورة صادقة وأمينة لملامح الحياة العربية القبلية بكاملها. وهو- أي كراتشكوفسكي- يرفض جميع الافتراضات التي تشكك بصحة انتساب هذا الشعر إلى العصر الجاهلي، لفقدان البراهين القاطعة على الشك به كمصدر تاريخي لدراسة عصر ما قبل الإسلام.
نجد في الدراسات التاريخية السوفياتية اختلافًا في النظر إلى الطابع النوعي للعلاقات الاقتصادية- الاجتماعية في العصر الجاهلي الذي ينتهي بنشأة الإسلام. فهناك نظريات عدة مختلفة بهذا الشأن يعرض لنا بعضها المستشرق السوفياتي (يفغيني بلياييف) مؤلف كتاب "العرب والإسلام والخلافة العربية". منها ما يسميه بالنظرية "التجارية الرأسمالية" منسوبة إلى ريزينيف Reisnev، ويقول بلياييف أنها كانت نظرية شائعة في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن وأنها "تختلف اختلافًا بينًا عن النظرية الماركسية اللينينية". ومنها النظرية "الرحلية"، والنظرية الزراعية": الأولى تقول أن نشأة الإسلام "هي انعكاس يجسد مصالح القبائل البدوية في الجزيرة العربية، كما يجسد مُثلهم العليا"، والثانية تقول بأن نشأته الأولى "كانت تجسيدًا لرغائب الطبقة التي لا تملك أرضا". بلياييف يرفض كلتا النظريتين لأنهما "لا تستندان إلى شيء من العلم". ثم يشير إلى بحث حول جذور الإسلام عند نشأته الأولى كتبه (س.ب. تولستوف) وأبدى فيه "اهتمامًا بأحوال الرق التي كانت سائدة في الجزيرة العربية في القرن الخامس والسادس للميلاد". ويصفه بلياييف بأنه كبحث تاريخي عميق مدموغ بالحجج والبراهين. ونرى - بعد- نظرية أخرى تقول بأن "الإسلام جاء في نشأته الأولى أيديولوجية للمجتمع الإقطاعي في أوائل عهده". ولكن المستشرقين الروسيين: ياكوبوفسكي A.Yu.Yakubovski، وبتروشفسكي I.P.Petroshevski "ينكران صحة النظرية الإقطاعية"، ويركزان على الرق في الجزيرة وعلى نشأته وتطوره". ثم يشيد بلياييف بالقيمة العلمية للدراسة "العميقة لمعززة بالحجج المقنعة التي يجدها القارئ في الجزء الثالث من المؤلف الضخم الذي وضعه المؤرخون الروس، وعنوانه "تاريخ العالم" (موسكو 1957)، وأنه يحتوي "جوهر ما كان يجرى في الجزيرة العربية من أحداث تاريخية وتيارات في القرنين الخامس والسادس" وما يتعلق بنشأة الإسلام الأولى. أما نظرية بلياييف نفسه فيقررها بصورة متفرقة من كتابه، على النحو التالي:
- الطابع السكاني في الجزيرة العربية مزيج من بدو رحل ومتحضرين يعيشون على الزراعة، وينطبق عليه قول ماركس "منذ أن ابتدأ التاريخ المدون نجد في الشرق ارتباطًا بين الحياة الحضرية المستقرة لدى جزء من الشعب والحياة البدوية المتنقلة لدى جزء آخر منه". في القرنين الخامس والسادس للميلاد كانت غالبية سكان الجزيرة -باستثناء أهل اليمن المتحضرين- تعيش في نطاق الترابط الاجتماعي البدائي، الذي يخلو من التصنيف إلى طبقات اجتماعية متميزة ومن الحكومة ومؤسسات حكومية. والنظام السائد هو نظام القبيلة والعشيرة القائم على رابطة الدم والنسب إلى جانب رابطة "الأخوة" بين العشيرة ومن ينضم إليها بشكل تحالف سياسي. ولكن التمايز الاجتماعي في توزيع الثروة كان يتسع، مع وجود التملك الخاص للماشية الذي يسبق التملك الخاص بالأرض، ومع استخدام العبيد في تربية الماشية وفي الزراعة. إن اشتداد التمايز في توزيع الثروة أوجد الأساس المادي لظهور علائم انحلال النظام الاقتصادي- الاجتماعي القبلي الذي سبق نشوء الطبقات. فإن سلطة العشيرة وزعمائها ارتكز على الحال والأوضاع الاقتصادية أكثر مما ارتكز على العرف والجاه. أما المستوى الحضاري في الجزيرة العربية خلال الفترة نفسها، فينطبق عليه- باستثناء وضع أهل اليمن- تعريف (إنغلز) لطور ما قبل الطبقات الاجتماعية بأنه الطور الذي فيه "يبدأ الإنسان باستخدام الحديد لصنع آلاته وأدواته، ثم ينتقل إلى طور الحضارة مع اختراع الكتابة الأبجدية". فقد بلغ عرب الجاهلية حينذاك هذا الطور بانقسام مجتمعهم إلى أهل الصنايع والزراع (صناعة الخزف وحياكة النسيج واستخدام المعادن المصهورة، صناعة السيوف، والمحاريث الحديدية، وصياغة الذهب والفضة).
- وعند نشأة الإسلام كانت التجارة واستفحال الربا يعملان على تفكيك العلاقات القبلية وتقويض نظامها، لأن النظام القبلي لا يتفق البتة مع النظام الاقتصادي القائم على أساس العملة. وكانت ثروة زعماء قريش تشمل المال والتجارة والمزارع والعبيد والماشية. ووجد في مكة والمدينة والطائف عمال يشتغلون بتحميل البضائع وعمال غير مصنفين يشتغلون في قطاعات مختلفة (البيطرة، رعي الماشية، سقاية الإبل في القوافل التجارية)، إن تفكك نظام العلاقات الجماعية البدائية، في مكة قبل غيرها، أدى إلى تحول عشائر قريش إلى نظام جديد تسيطر عليه فئة من أعيانها لها مؤسسات رسمية بسيطة تدير شؤون العشائر (الملأ، دار الندوة). في أخريات عصر الجاهلية كانت الوثنية في آخر أيامها. إذ دخلت على التنظيم القبلي الجماعي البدائي علاقات "طبقية" جديدة أدت إلى التحول عن الوثنية (الشرك) إلى التوحيد. إن ظاهرة التحالف بين القبائل تعكس التطلع إلى توحيد الجزيرة وإقامة سلطة مركزية. وهذا لا يتم إلا في ظل عقيدة توحيدية يحترمها الناس ويقدسونها. وظهرت الحنيفية حينذاك كشكل من أشكال التوحيد عند العرب. ولكن الحنيفية لم تنتشر كثيرًا في مكة لا لمقاومة القريشيت لها فحسب، بل لعوامل اجتماعية في مكة (التناقضات الاجتماعية: بين التجار والمرابين وبين المتضررين من الربا، بين مالكي العبيد وتوق العبيد إلى التحرر). ولم تكن الحنيفية تعكس مطامع الفئات المستضعفة، إذ اقتصر تبشيرها أول الأمر على كون الحياة فانية. غير أن الحنيفية إذ واكبت تطور المجتمع المكي، تطورت معه ودخلت مرحلة التمهيد لظهور الإسلام. والاستنتاج الأخير: أن الإسلام نشأ في الجزيرة أيديولوجية جديدة تعكس التغيرات الكبرى التي طرأت على المجتمع العربي: (تفاقم التمايز في توزيع الثروة، الرق، التبادل التجاري). ومع ظهور الإسلام ظهر تنظيم (جماعة المؤمنين). هذا التنظيم يناقض التنظيم القبلي القديم. هذه "الجماعة" بتنظيمها الجديد أصبحت القاعدة الأساس التي قامت عليها الدولة الإسلامية. وهذا يثبت صحة النظرية القائلة: "إن أول محاولة لتأسيس الدولة يجب أن تكون القضاء على التنظيم القبلي وتفكيك أوصاله".
Photo: من كتاب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) لـ (حسين مروَّة)، عن (دار الفارابي- بيروت)، طبعة (1981)- الجزء الأول صـ (145، 146، 147، 148). ــــــــــــــ "أما الماركسيون المتأخرون، والمعاصرون منهم- ولا سيما المستشرقون والباحثون السوفياتيون- فإن الصورة لديهم عن شكل العلاقات الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية، خلال القرنين الخامس والسادس للميلاد وفي مرحلة نشأة الإسلام، ليست صورة واحدة. مرجع ذلك- كما نعتقد- إلى أن المعطيات التاريخية عن تلك المرحلة من تاريخ العرب ليست بالمستوى الذي يمكن الباحث العلمي المعاصر من تكوين صورة واقعية كاملة تتمثل فيها طبيعة العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية بواقعها الحقيقي. إن هذا النقص مرده- بالدرجة الأولى- إلى طريقة المؤرخين العرب الأقرب عهدًا إلى تلك المرحلة، وهي طريقة تتسم بالانهماك في تفاصيل جانبية لا تمس ذلك الواقع إلال قليلاً. ولذا لم يبق للباحث المعاصر ولا سيما غير العربي، إلا أن يعتمد المؤلفات المتأخرة عن العصور الإسلامية الأولى، كمؤلف الشهرستاني الشهير (الملل والنحل)، أو كتابات الرحالين المحدثين وأصحاب الدراسات الحديثة، وهذه تنظر إلى ذلك الواقع القديم من مسافة زمنية تزيد عن أربعة عشرة قرنًا، فهي إذن لا تعرف الصورة إلا استنتاجًا من بقايا الماضي البعيد ومن مؤلفات القدماء غير الوافية. غير أن المستشرق الروسي السوفياتي أغناطيوس كراتشوفسكي الواسع المعرفة في مجال الدراسات العربية، جعل اعتماده الأوثق على الشعر الجاهلي من حيث كونه "أقدم أثر للغة العربية"، وكونه لذلك "بالنسبة لتاريخ تلك المرحلة ليس فقط أقدم الآثار، بل هو - في الحق- الأثر الوحيد الذي بقى لنا من تلك الحوادث التي يتناولها". من هنا يرى كراتشكوفسكي أن الشعر الجاهلي يمثل صورة صادقة وأمينة لملامح الحياة العربية القبلية بكاملها. وهو- أي كراتشكوفسكي- يرفض جميع الافتراضات التي تشكك بصحة انتساب هذا الشعر إلى العصر الجاهلي، لفقدان البراهين القاطعة على الشك به كمصدر تاريخي لدراسة عصر ما قبل الإسلام. نجد في الدراسات التاريخية السوفياتية اختلافًا في النظر إلى الطابع النوعي للعلاقات الاقتصادية- الاجتماعية في العصر الجاهلي الذي ينتهي بنشأة الإسلام. فهناك نظريات عدة مختلفة بهذا الشأن يعرض لنا بعضها المستشرق السوفياتي (يفغيني بلياييف) مؤلف كتاب "العرب والإسلام والخلافة العربية". منها ما يسميه بالنظرية "التجارية الرأسمالية" منسوبة إلى ريزينيف Reisnev، ويقول بلياييف أنها كانت نظرية شائعة في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن وأنها "تختلف اختلافًا بينًا عن النظرية الماركسية اللينينية". ومنها النظرية "الرحلية"، والنظرية الزراعية": الأولى تقول أن نشأة الإسلام "هي انعكاس يجسد مصالح القبائل البدوية في الجزيرة العربية، كما يجسد مُثلهم العليا"، والثانية تقول بأن نشأته الأولى "كانت تجسيدًا لرغائب الطبقة التي لا تملك أرضا". بلياييف يرفض كلتا النظريتين لأنهما "لا تستندان إلى شيء من العلم". ثم يشير إلى بحث حول جذور الإسلام عند نشأته الأولى كتبه (س.ب. تولستوف) وأبدى فيه "اهتمامًا بأحوال الرق التي كانت سائدة في الجزيرة العربية في القرن الخامس والسادس للميلاد". ويصفه بلياييف بأنه كبحث تاريخي عميق مدموغ بالحجج والبراهين. ونرى - بعد- نظرية أخرى تقول بأن "الإسلام جاء في نشأته الأولى أيديولوجية للمجتمع الإقطاعي في أوائل عهده". ولكن المستشرقين الروسيين: ياكوبوفسكي A.Yu.Yakubovski، وبتروشفسكي I.P.Petroshevski "ينكران صحة النظرية الإقطاعية"، ويركزان على الرق في الجزيرة وعلى نشأته وتطوره". ثم يشيد بلياييف بالقيمة العلمية للدراسة "العميقة لمعززة بالحجج المقنعة التي يجدها القارئ في الجزء الثالث من المؤلف الضخم الذي وضعه المؤرخون الروس، وعنوانه "تاريخ العالم" (موسكو 1957)، وأنه يحتوي "جوهر ما كان يجرى في الجزيرة العربية من أحداث تاريخية وتيارات في القرنين الخامس والسادس" وما يتعلق بنشأة الإسلام الأولى. أما نظرية بلياييف نفسه فيقررها بصورة متفرقة من كتابه، على النحو التالي: - الطابع السكاني في الجزيرة العربية مزيج من بدو رحل ومتحضرين يعيشون على الزراعة، وينطبق عليه قول ماركس "منذ أن ابتدأ التاريخ المدون نجد في الشرق ارتباطًا بين الحياة الحضرية المستقرة لدى جزء من الشعب والحياة البدوية المتنقلة لدى جزء آخر منه". في القرنين الخامس والسادس للميلاد كانت غالبية سكان الجزيرة -باستثناء أهل اليمن المتحضرين- تعيش في نطاق الترابط الاجتماعي البدائي، الذي يخلو من التصنيف إلى طبقات اجتماعية متميزة ومن الحكومة ومؤسسات حكومية. والنظام السائد هو نظام القبيلة والعشيرة القائم على رابطة الدم والنسب إلى جانب رابطة "الأخوة" بين العشيرة ومن ينضم إليها بشكل تحالف سياسي. ولكن التمايز الاجتماعي في توزيع الثروة كان يتسع، مع وجود التملك الخاص للماشية الذي يسبق التملك الخاص بالأرض، ومع استخدام العبيد في تربية الماشية وفي الزراعة. إن اشتداد التمايز في توزيع الثروة أوجد الأساس المادي لظهور علائم انحلال النظام الاقتصادي- الاجتماعي القبلي الذي سبق نشوء الطبقات. فإن سلطة العشيرة وزعمائها ارتكز على الحال والأوضاع الاقتصادية أكثر مما ارتكز على العرف والجاه. أما المستوى الحضاري في الجزيرة العربية خلال الفترة نفسها، فينطبق عليه- باستثناء وضع أهل اليمن- تعريف (إنغلز) لطور ما قبل الطبقات الاجتماعية بأنه الطور الذي فيه "يبدأ الإنسان باستخدام الحديد لصنع آلاته وأدواته، ثم ينتقل إلى طور الحضارة مع اختراع الكتابة الأبجدية". فقد بلغ عرب الجاهلية حينذاك هذا الطور بانقسام مجتمعهم إلى أهل الصنايع والزراع (صناعة الخزف وحياكة النسيج واستخدام المعادن المصهورة، صناعة السيوف، والمحاريث الحديدية، وصياغة الذهب والفضة). - وعند نشأة الإسلام كانت التجارة واستفحال الربا يعملان على تفكيك العلاقات القبلية وتقويض نظامها، لأن النظام القبلي لا يتفق البتة مع النظام الاقتصادي القائم على أساس العملة. وكانت ثروة زعماء قريش تشمل المال والتجارة والمزارع والعبيد والماشية. ووجد في مكة والمدينة والطائف عمال يشتغلون بتحميل البضائع وعمال غير مصنفين يشتغلون في قطاعات مختلفة (البيطرة، رعي الماشية، سقاية الإبل في القوافل التجارية)، إن تفكك نظام العلاقات الجماعية البدائية، في مكة قبل غيرها، أدى إلى تحول عشائر قريش إلى نظام جديد تسيطر عليه فئة من أعيانها لها مؤسسات رسمية بسيطة تدير شؤون العشائر (الملأ، دار الندوة). في أخريات عصر الجاهلية كانت الوثنية في آخر أيامها. إذ دخلت على التنظيم القبلي الجماعي البدائي علاقات "طبقية" جديدة أدت إلى التحول عن الوثنية (الشرك) إلى التوحيد. إن ظاهرة التحالف بين القبائل تعكس التطلع إلى توحيد الجزيرة وإقامة سلطة مركزية. وهذا لا يتم إلا في ظل عقيدة توحيدية يحترمها الناس ويقدسونها. وظهرت الحنيفية حينذاك كشكل من أشكال التوحيد عند العرب. ولكن الحنيفية لم تنتشر كثيرًا في مكة لا لمقاومة القريشيت لها فحسب، بل لعوامل اجتماعية في مكة (التناقضات الاجتماعية: بين التجار والمرابين وبين المتضررين من الربا، بين مالكي العبيد وتوق العبيد إلى التحرر). ولم تكن الحنيفية تعكس مطامع الفئات المستضعفة، إذ اقتصر تبشيرها أول الأمر على كون الحياة فانية. غير أن الحنيفية إذ واكبت تطور المجتمع المكي، تطورت معه ودخلت مرحلة التمهيد لظهور الإسلام. والاستنتاج الأخير: أن الإسلام نشأ في الجزيرة أيديولوجية جديدة تعكس التغيرات الكبرى التي طرأت على المجتمع العربي: (تفاقم التمايز في توزيع الثروة، الرق، التبادل التجاري). ومع ظهور الإسلام ظهر تنظيم (جماعة المؤمنين). هذا التنظيم يناقض التنظيم القبلي القديم. هذه "الجماعة" بتنظيمها الجديد أصبحت القاعدة الأساس التي قامت عليها الدولة الإسلامية. وهذا يثبت صحة النظرية القائلة: "إن أول محاولة لتأسيس الدولة يجب أن تكون القضاء على التنظيم القبلي وتفكيك أوصاله".
لا يوجد مراجعات