مبحث في الفاهمة البشرية
يرتبط اسم هيوم، في تاريخ الأفكار، بنقد مبدأ السببية وتفكيك فكرة الاقتران الضروري. وذاك ما يشكل إسهامه الرئيس في تنامي الفلسفة الإمبيرية الإنكليزية وبلوغها أوجها. والأمبيرية تسمية تطلق على مذهب في المعرفة ينطلق من تقرير أن الخبرة الحسية هي المصدر الوحيد لما نعلم، وذلك في مواجهة المذهب العقلاني القائل باستناد ما نعلم عن العالم وعن أنفسنا إلى "الأفكار الفطرية" و"مبادئ الذهن" القبلية.
ويستند المذهب "المعرفي" ذاك إلى رذل أي دعوى بعلمان ما يتعدى الخبرة والتجربة، وأي كلام عقلاني عليه، أي إلى رذل ما يسميه "الميتافيزيقا" مورثاً بذلك لبساً سوف يتناقله العصر اللاحق ولن يبدده التنبيه الكنطي نفسه. فالإمبيرية، مع هيوم بخاصة، تخرج الكلام على "الكائن بما هو كائن" والبحث عن "العلل الأولى" من دائرة التفلسف، وتنهي نقد الأفهومين "سبب وجوهر"، فتسم الفلسفة الحديثة، على ما يذكر مؤرخو الأفكار، بميسم "نسيان" السؤال عن الكون والإنهمام بالسؤال: ما المعرفة؟ وكيف نعرف؟ وتنهي النظر إلى الذات بوصفه جوهراً مفرداً وتستبدله بالنظر إليه بوصفه مجرد صبد جيكت للمعرفة، أي ما عليه تحمل المعرفة وإليه تسند.
ويتوسل هيوم في عرض آرائه والدفاع عنها التحليل السيكولوجي النقدي لـ"الأفكار المجردة" المستند إلى حصر إدراكات الذهن في صنفين: الانطباعات والأفكار، وهو يوضح ذلك بالقول: "أعني.. بلفظ انطباع كل ما هو أكثر حياة في إدراكنا حين نسمع ونرى ونلمس ونحب ونكره ونرغب ونريد. وتتميز الانبطاعات من الأفكار التي هي ما هو أقل حياة في إدراكاتنا وما نعيه عندما نفكر بأي من الإحساسات تلك.
أما الأفكار فليست سوى نسخ عن الانطباعات: سواء كانت ذكريات عن انطباعات سابقة أم استباقات للمخيلة عما سنحس به، فلا تبلغ البتة قوة الانطباعات وحيويتها. وهذا يعني أنه لا يمكن إثبات صواب الأفكار ومدلولها إلا بالصلة مع الانطباعات التي عنها صدرت. وهذا الكلام ينطبق بخاصة على الأفكار البسيطة. أما الأفكار المركبة التي هي حصيلة عمل الذهن فيمكن أن تكون مركبة من أفكار بسيطة وفقاً لقوانين تداع معروفة مثال "مكتب المدير"، أو تكون ناتجة بفعل التفكير والمخيلة والعادة مثال أفكار "الله" و"المكان والزمان" و"الضرورة السببية".