ثلاث نساء قديرات
"ثلاث نساءٍ قديرات"، فتمتاز أوّلاً بخصوصيّة في الشكل الروائيّ. إنّها تضمّ ثلاث قصص طويلة، كلّ منها مخصّصة لحضور فريد لامرأة، ولكنّ القصص ترتبط بخيوطٍ، بعضها خفيّ والبعض الآخر ظاهر، لتشكّل في نهاية المطاف رواية متكاملة ومنسجمة. والخيط الناظم الأكبر هو هذه الوحدة المعنويّة أو الروحيّة، تجمع ثلاث نساء يسيطرن على مصيرهنّ بذكاء وقوّة.
المرأة الأولى هي نورا، العصاميّة التي صارت محامية بباريس، بالرّغم من هجران والدها السنغاليّ (كأبي الكاتبة نفسه) للعائلة، تذهب إلى داكار، لزيارة أبيها المتغطرس والمهووس، الذي لم يلتفت إليها ولا إلى أختها وأمّهما يوماً، والذي يزجّ بأخيهما، وهو الوحيد الذي اصطحبه معه إلى السنغال، يزّج به في مغامرة مظلمة تجعل الفتى يقبع في السّجن. مصير متشابك تروح هي تحلّ وشائعه الواحدة بعد الأخرى.
المرأة الثانية هي فانتا، التي قلّما تحضر فعليّاً في الصفحات المخصّصة لها، والتي تظلّ مع ذلك دائمة الحضور في تداعيات زوجها والبلبلة التي تطبعه بها كثافتُها الإنسانيّة، زوج عاثر، فرنسيّ نشأ في السنغال، عاد بها وبابنهما إلى فرنسا فلم يفلح في تحقيق عيش كريم للعائلة. نراه دائم الحركة في سيّارته العتيقة، فيما يشبه أوديسة بريّة، يجترّ ذكرياته ويحلّل سلوك زوجته ويعلن اندحاره أمام صمتها البليغ.
أمّا المرأة الثالثة، خادي دمبا، فتقودنا إلى عالم الهجرات المحبَطة الذي نعيش مأساته منذ سنوات، حيث الرحلات المغامِرة تنتهي بغرق الآلاف. تعاني خادي، الأرملة الشابّة، شظفَ عائلة زوجها الرّاحل، التي تقذف بها على طرق الهجرة. وعندما تحاول، بصحبة العشرات من الطامحين للرّحيل، اجتياز الحاجز الشائك وصولاً إلى إحدى السّفن، تهوي منه وترى موتها على هيئة طائر يغنّي لها. طائر لطالما لمحته من قبل، فكأنّه قرينها أو ملاكها الحارس، هي الأميّة التي لم تشأ رغم كلّ الظروف المناوئة أن تتخلّى عن تمسّكها بجوهرها اللّطيف، والتي اعتادت أن تتشبّث في أقسى اللّحظات بامتلائها بذاتها وبحقيقة أنّه مهما حدث فإنّها لا تجهل من هي، هي خادي.
لم تكن الكاتبة ماري ندياي، التي قلنا إنّها ولد ونشأت بباريس، قد تجاوزت سنّ السابعة عشرة عندما أرسلت بالبريد مخطوطة روايتها الأولى "أمّا عن المستقبل الثريّ" إلى منشورات "مينوي" الباريسيّة، التي سارعت إلى نشرها، واجتذب العمل الأنظار إلى الكاتبة الشابّة فوراً. بعد ذلك كتبت روايات أخرى وأعمالاً مسرحيّة حقّقت لها رصيداً أدبيّاً كبيراً بلغ ذروته مع روايتها "روزي كارب"، التي تُوجّت بجائزة "فيمينا" للرواية في 2001، ثمّ مع "ثلاث نساءٍ قديرات"، التي نالت عليها جائزة غونكور للرواية في 2009.
لا يوجد مراجعات