الشعر السياسي الحديث في العراق
للسياسة صلة عميقة في الحياة العراقية، استقطبت الشعراء فتضمنت قصائدهم مشكلة مسيرة يرصدها الباحث يوسف عز الدين في كتابه (الشعر السياسي الحديث في العراق ـ دراسة أدبية تاريخية) والصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر.. مبيناً ان السياسة بثت في الشعر العربي احاسيس مختلفة وآراء متناقضة تولدت من تأثير الانقلابات والتغيرات العراقية. مشيراً الى عاطفة الشعب العراقي ورهافة احاسيسه وشدة تأثره النفسي بما يسمع او يقرأ، فهو الذي ورث ثقافات اليونان والرومان والفرس حتى مجيء الاسلام،
وقد جعلت منه كثرة الحوادث اناني الطبع وفردي الشخصية حاملاً الفكر السامي والآري بسبب وصول الشرق والغرب الى دياره.. موضحاً ان مسرى الأدب الحديث في العراق يختلف عن مسراه في الوطن العربي بحسب ما مرت بالعراق من احداث لا يميزها البعض ممن تصدى لدراسة الأدب، فهو يخلط ما بين المعاصر والحديث، وحتى مع أدب القرن التاسع عشر من دون معرفة لتلك الاختلافات الجذرية بين أدب العراق والوطن العربي.. لافتاً الى ان الأدب العربي الحديث في العراق بدأ بصورة ظاهرة بعد الحرب العالمية الأولى، وتجلى بعد دخول الانجليز وتأثيرهم في الحياة الاجتماعية والفكرية العراقية.. أما الأدب المعاصر فمن أبرز اسبابه الحرب العالمية الثانية، فقد كثرت الترجمة وسهلت المواصلات والاتصالات والسفرات خارج العراق اضافة الى دخول المطبوعات والدواوين الشعرية للبلاد في وقت كان الفكر الديني مسيطراً على الأدباء لأنهم درسوا الأدب العربي مع الفكر الاسلامي في المساجد ودور العلم الحديثة.. وان وصول الفكر الغربي الذي بدأ رويداً بعد الحرب الأولى وتجلى في الثانية أثر كثيراً في ثقافة الشاعر وطالب العلم. وبدأت تظهر الشخصية الأدبية بتيار جديد وتطور سمي بالأدب العصري الذي جاراه روفائيل بطي فأصدر كتابه"الأدب العصري"، وأخذ الأدباء يطلعون على الأدب العربي في مصر ويقرأون النقاش الدائر بين الجديد والقديم منطلقين من احساسهم بالتحرر والثورة على القديم لتوسيع آفاق المعرفة وسبر أغوار مشكلات الأمة. وهنا ينوه الباحث الى ان الاستعمار اتاح هذه الفائدة التي ايقظت الشعب وجعلت المثقف يتأثر بدعوات الاصلاح التي بدأها جمال الدين الافغاني ومحمد رشيد رضا ومحمد عبد وشكيب ارسلان وشبلي شميل، فكانت المعارك الفكرية نتيجة تضارب الآراء، فقد وقف المفكر العراقي موقفين من هجوم جماعة الديوان على احمد شوقي وتأثره بالمناقشات التي كانت تجري بين طه حسين والرافعي، وكان هناك من ينتصر للأستاذ لطفي السيد ضد العقاد ومن يدافع عن هيكل، وعلى هذا الحال تسربت اسماء كتاب الغرب وفلاسفته في ادب المثقف فذكر ولز وشو وديكارت ودارون ومونتسكيو وتولستوي ودانتي وباسكال وغيرهم. واصبحت كلمة تمدن ومدنية ومتمدن شعارات يرفعها حتى من لم يعرف معناها، حتى قال الرصافي ساخراً من دعاة المدنية:"وكم مدع فضل التمدن ما له ـ من الفضل الا أكله بالملاعق".. ويذكر الباحث ان اهم مظاهر التجدد في الشعر هو خروجه عن الألفاظ الطنانة والأساليب البلاغية المعقدة الى ساحة المعاني الواضحة وسعة الخيال لأن الاحداث القديمة لم تكن قادرة على وصف الاحداث والآراء والمخترعات التي طرأت على الفكر العربي الحديث، فقد دخل مشكلات الانسانية وقضايا العالم تاركاً القوقعة الفكرية والاقليمية. مبيناً ان ذكاء العراقي دعاه الى التحليل والمقارنة والمناقشة فلا يرضى عن حاكم او ينضوي تحت راية سلطان، فالسياسة التي اهتم بها هذا العراقي لا تتماشى دائماً مع طموحه، حتى ان الكثير منهم كانوا شديدي السخرية بالوزارة والوزراء كارهين رجال الحكم والسلطة، فاظهر صدى معاناتهم النفسية واحاسيسهم المتدفقه تناقضاتهم الداخلية المتراكمة في اللاشعور الباطني الذي رقدت فيه حضارات الآشوريين والبابليين والهند وفارس واليونان والرومان حتى مجيء الاسلام.. ولعل من من أهم الحركات التي يذكرها الباحث هي حركة أيار 1941 وفيها اتهم العراقي بالنازية لتعاطفه مع حركة هتلر تعبيراً عن بغضه لأعمال الانجليز في العراق والوطن العربي خاصة فلسطين وسوريا، وبالفعل قام الالمان بمساعدة العراق بالطائرات لكنها وصلت متأخرة وإلا لكانت غيرت مجرى الاحداث ولطالت الحرب خاصة وان الضباط العقداء لم يحسنوا التخطيط وقد تركوا البلاد من دون قيادة واصابوا الشعب بالخيبة. فيقول الباحث:"كنا نحمل كرهاً عميقاً للساسة ولا سيما نوري السعيد والأمير عبد الإله، وبذلك ما كنا نريد ان نسمع عنهما الا المساوئ وقد ابتعد الجيل حتى عن التعرف عليهم".. وبعد الحرب أعيد جميع المعتقلين الى وظائفهم وحسبت لهم مدة السجن للترقية والترفع، ونجا كبار المعارضين من الأذى ومنهم معروف الرصافي وفهمي المدرس وعبد الغفور البدري ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم ممن اسهموا بشعرهم ونثرهم وفكرهم في بث الحماسة في الرأي العراقي، وكانت الفترة تعبيراً عن آلام النفس وكراهية الانجليز وتنفيساً للبغضاء التي يكنها العراق للاستعمار، وقد القى الجواهري قصيده التي نظمها في ثورة العشرين من المذياع، وصب الهجاء على الذين وقفوا ضد الحركة.. وكان الرصافي من اوائل الشعراء الذين اسعدتهم هذه الحركة وهو يحمل كراهية عميقة للانجليز ووصفهم بأنهم اصحاب كيد ومكر وكذب وحنث بالوعود ونقض للمواعيد وأنهم يبذرون الفتن في المستعمرات ويرتكبون المظالم وينشرون الجوع فيها، بينما هم يستأثرون بالنفيس من الطعام واللذيذ من الشراب والغالي من الرياش ولا يتركون للشعوب التي يستعمرونها غير الفضلات.. ومن الشعراء الذين هاجموا الحركة ومدحوا الوصي هو مظهر أطيمش، ومن قوله ان الحركة كانت سبباً في اراقة الدماء، وبعودة الوصي عبد الإله عاد الرجاء.. وأرسل مهدي القزويني برقية فيها ثلاثة ابيات ترحب بعودة الوصي.. في حين هجا جميل احمد الكاظمي الحركة والقائمين عليها، ولم يكتف بشتمهم وانما عرج على هجاء معروف الرصافي لأنه أيد حرب الانجليز، كما اصدر كتاباً في مدح الوصي والملك تحت عنوان"آيات الحق والاخلاص".