معسكرات الأبد
"كانت الهضبة التي تستوطنها نبات "موسى" تواجه قمة "الجودي" في الشمال الشرقي، المنحدر إلى إقليم الشمس كلسان نديّ يبشر بالقيامة كل يوم، منذ الفضيحة الأولى للحياة، وكانت البنات وفي لحظات فراغهن من الأشغال، يتجادلن طويلاً في تحديد صورة السفينة المنبثقة من خيالهن في البعد الأكثر جموحاً من خيالهن:" استوت على الجودي" يقول الله: إذاً هي هناك بأخشابها الصقيلة، ومساميرها التي من نار باردة لا تنطفئ، وحبالها المفتولة من نسيج العضلة الأولى لسان الإنسان. هي هناك، السفينة هناك في المهب الخالد الذي يمتحن البصر بانقلاباته الكثيفة بين الشكل ونقيضه، وبين المرئي والمحتجب. ولطالما ظلّت نبات "موسى" أعينهن بالأيدي ليحصدْن مشهد الهيكل السرابي بدقائقه: - السارية مائلة ... تميل من ثقلها، إنها ذهبية .. ولماذا الذهب .. الجشع يا اختي ، لو جعلها الله من حديد - كانت ستصدأ الصارية في المياه .. الجبل بجيل يا أختي ... الأرض كلها واقفة على قمة الجودي فكيف لا تميل - أنحن واقفات على المياه؟ لا تكثري من الأسئلة. أنت تقلقين النو ... كن يرين السفينة خشبة خشبة ، كوثلاً كوثلاً، مسامير مسامير، وعوارض ملقاة على جهاتها كسلالم مكسورة، لكن البرق وحده، كان يكشف خلال الكائنات التي ما تزال هائمة حول هيكلها. كل الكائنات التي استقلت السفينة تلك تركت ظلالها على حبل "الجودي" وحين يومض برقاً في القبة الزئبقية لسماء الجبل، تنعكس ظلال الكائنات، المهجورة من جسومها، على سطح الهضبة الشمال، في استطالات لا يستطيع تخمين مداها إلا الأبدية المتشعبة بفراغ المسافة الصلب. كانت الأوزات الثلاث يهرعن، شرسات، صوب الظلال إذا تسلقت الهضبة .. لكن الكلبين "توسي" و "هرنة" لم يكونا يظهران أي تعبير قط، .. كانا هادئين. كانا أبداً - هادئين في انشغالها الكثير بالوحي الصامت لأنين الهضبة، حتى أن البرق الماجن ، الذي افلت من سياج الغيم، فجأة، هذا الصباح، فأضاء سلالم النوارنيين، وأكتاف بنات "موسى" المتهدلة، وسفر "هبة" المنفوش وهي خارجة من المنزل الشرقي - اصابها بنعاس من قعيا قرب بركة ماء الدجاجات، مغمضين عيونها صفوفاً طويلة وقف النورانيون على حواف الهضبة بعدما ارتقوها، صفوفاً متماوجة بحسب تعرجات الأرض المتهدمة، بدءاً من المرتفع الأحمر غرباً، حيث ستنبت قرية "الهلالية" ، وانتهاءً بالمنحدر الرمادي شرقاً في المواطئ التي يتبعثر فيها النهر فتسرقه أهدار القصب، حيث ستنبت قرية "هلكو" بالوافدين السريان والأرمن، ولغاتهم العجولة التي هي طبع من طباع الحقيقة ... لو قُدّر لبنات "موسى" أن يرين تلك الصفوف، من حافة الطريق الشرقية، لانفرجت أساريرهن عن مرح: فالمشهد أشبه برسم يحفظه في دارهن، قالت أمهن أنه من أحاييل دهاة من "سمرقند" يجففون في اللون أرواح المغول، كل لونٍ دهقانٍ، مغولي أو ملل، أو سفير إلى الجهات برسائل عليها ختم الحقيقة .. في رقعة الشمع الأحمر على لفائف الجلود وأسرارها: ذلك ما كان ظاهراً في الرسم الذي يعلو أحد جدران المنزل الغربي، حيث يتوسط "تيمورلنك" مجلساً على طنافس فوق الأرض ... كانت أمهن "خاتون نانو" تتباهى أن "تيمورلنك" مر بهذه الهضبة .. لم يكن الرسم معلقاً إلى مكان عالٍ، بل كان في متناول اليد على الجدار، لكن أحداً يمسّ الغبار الذي تجاوزت الشاشة على ذلك الفضاء والمغولي ذي النمنمات التائهة. لقد حذر "موسى" بناته لا يهان الغبار ولا تهينين الغبار يا بنات. إنه رسول الزمن". وكان يتوجه بكلامه عادة إلى "زيري" . "لا تهيني الغبار يا "زيري". كان "موسى" يكرر على مسامع إبنته مضيفاً: "أتركي قليلاً منه على المسطبة يا فتاة، إنه بركة الغيب، لكن زيري لم تأبه كثيراً .. للشارات غير المفهومة في كلمة ابيها. أنا حين غدا "موسى" شبحاً، قبل ستّ سنين، فقد آثرت "زيري" وأخواتها أيضاً، الإنصات إلى الصدى المهيب لصوت الماضي: "لا تهنين الغبار"، .. الغبار صيفاً، الهام من أعماق "موسى" زيّن له حكمته في أن يكون الغبار ضيفاً ..." يأخذك الروائي في عمق التاريخ لتعيش لحظة انبثاق الكون من جديد .. مع سفينة نوح التي استقرت على الجودي .. وفي ينصر قارن من النهضة، يسمع انزلاق هيكل السفينة الضخم على الصخور في بطء ساحق، لكنه متواصل منذ القرون التي لا تحصى في مدى شحوبها ... مع عائلة موسى يستحضر الكاتب حقباً تاريخية مرت على هذه الهضبة وما حولها، ومكبات ... ومكبات حصدت سكانها .. غيرت من معالمها إلا أنها تبقى في الذاكرة .. على صورتها الأولى.