مدينة الملائكة أو معطف الدكتور فرويد
لم يكن لدى أنجلينا أي علاقة بالسن. كان لديها كل الوقت. أرادت أتن تنقل طيشها إليّ. أرادت أن أستمتع بهذه الرحلة الجوية. أرادت أن أنظر إلى الأسفل، مودعةً منحنى الخليج السخي الذي طالما جذبني، والأطراف الرغوية البيضاء التي كان البحر يكسحها على الشاطئ أمام الشارع الساحلي، وصفوف النخيل وسلسلة الجبال الداكنة في الخلفية.
والألوان. آهٍ يا أنجلينا، الألوان! وهذه السماء.
بدت راضية، طارت في صمت، وأبقت عليّ إلى جوارها.
إلى أين نحن ذاهبتين؟
هذا ما لا أعرفه. "إنه النظر في تلك الملفات - إن كنت تعلم - هو ما قد أفسد الماضي وسمّم معه الحاضر في الوقت نفسه، قال فرانشيكو أنه لا يفهم ذلك تماماً، قلت: إن الإختراق المفاجئ للحقائق يمكن أن يكون له تأثير مدمر.
هنا ثارت ثائرة فرانشيكو فصرخ في وجهي: سألني أحقاً اعتقدت أن ما وجدته في تلك الملفات يمثل حقيقة الوقائع؟ قلت: إن هذا ما يتم توجيه الرأي العام لتصديقه، بالضبط - قال فرانشيكو - اسألي نفسك لماذا... كان الليل قد حلّ، وقد لاحظت أن فرانشيكو قد بدأ يمل، كان يريد أن يرحل، ولكن كان عليّ أن أبقيه، قلت أنني وصلت لتوّي إلى ما كان لا بد أن أحكيه أصلاً وما تطلب مني هذه المقدمة...
آخر يوم في الجهاز، أخيراً، كنت قد أطلعت بالفعل جيداً، بشكل أو بآخر على الأثني وأربعين ملفاً وتعرفت على الأسماء الحقيقية للمراقبين ثم نسيتها، اعتقدت أنك قد انتهيت منها، فقمت بالضغط على الموظفة المسؤولة عنك التي كنت قد كوّنت معها علاقة أشبه بالصداقة والتي كانت تعرف ملفاتك أكثر منك شخصياً: قلت أن هناك شيئاً آخر، راودك فوراً شعور بوبال محدق من دون أن تعلمي ماذا يمكن أن يكون هناك بعد، لكن أردت أن تعرفي، على الفور أبدت تردداً، ليس مسموحاً لها أن تطلعك على "سجلك الجنائي" - أول مرة تظهر هذه الكلمة - فقد وقّعت تعهداً بذلك، لكنك أصررت.
في النهاية أخذت منك عهداً أن لا تقولي لأحد أنها خالفت هذه التعليمات، ثم غادرت الغرفة التي جلستما فيها سريعاً حيث انتهى وقت العمل وعادت حاملة غلاف ملف أخضر رقيقاً وضعته أمامك وقلّبت أوراقه - وأنت لا تزالين غير مدركة بعد - وهي واقفة خلفك لبضع دقائق لم تتوقف خلالها عن التلفت حولها لكي لا يضبطها أحد وهي تقترف تلك المخالفة، أليس هذا خط يدك؟ - سألتك بصوت خفيض يشوبه الشجن، وكان هو بالفعل خطي، قلت لفرانشيكو، ومنذ ذلك الحين عرفت: أنه ليس مجرد قول أن يقف شعر رأس المرء، وإنما هذا ممكن حقاً... لكنك لم توقعي على شيء، لا إقرار ولا أي شيء - قالت الزميلة - فهذا يغير الوضع تماماً.
لم يكن لديك وقت، لم تتمكني من القراءة بدقة، كان بإمكانك فقط أن تطّلعي على تلك الصفحات القليلة بسرعة: خطك على تقرير يبدو أنه غير ذي أهمية عن أحد الزملاء، تقارير من وسيطين عن ثلاث أو أربع "مقابلات" معك، كونهم أشاروا إليك بإسم مستعار هو ما حوّل هذا الدفتر إلى "سجل الجنايات" وزج بك بلا مقدمات إلى فئة مختلفة من البشر، قالت الموظفة المسؤولة عنك التي جذبت الدفتر بسرعة: لقد مرّ على ذلك كله أكثر من ثلاثين عاماً، لم يحدث شيء تقريباً، ثم إنه جاءت بعد ذلك أكوام من "ملفات الضحايا"، لا بد أن يكون الجميع قد أدرك بعدها كم يبلغ هذا الإجراء القديم من التناهة... قال فرانشيكو: اللعنة، وبعد قليل: ما الذي تردين فعله، قلت: سأقوم بنشر هذا كله، فكري في هذا الأمر جيداً - قال فرانشيكو، فأنا أيضاً أقرأ صفحكم. عليك أن تسألي نفسك أن كان بإستطاعتك تحمل ما سيحدث بعد ذلك، قلت: ليس عندي خيار...
عبرت المنعطف من شارع سكوند ستريت إلى الحديقة الأسبانية، رأيت وجوه حيوانات الراكون الثلاثة محملقة من خلف الشجيرات، دخلت البهو... دخلت إلى شقتي... استقلب على سريري العريض... غالبني النعاس بينما مرت أمام عيني بعض أبيات الشعر التي أعرفها، تقبل هلاكك... ثم بزغ لي حلم عابر آخر، ظهر لي وجهٌ، وجه صديقتي إيما التي كانت ميتة بالفعل لكنني كنت بحاجة إليها الآن، إلا أنني اعتقدت أنني عرفت ما كانت ستطلبه مني: عدم إظهار أي تأثير، هذا ما كانت ستقوله: كما كانت تقول في الماضي، 1965- يا إلهي، أكثر من ربع قرن كان قد مضى منذ ذلك الحين!.
بعد تلك الضجة التي صاحبت جلسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التي تم خلالها التضحية بالثقافة كبش فداءٍ لكل ما حاد عن المسار، حيث رأيت أنت ضرورة في الدفاع عن كل من يتم توجيه الهجوم ضده، وكنت بذلك تصطدمين بحائط فتم توجيه الهجوم إليك، وحين خرجت في النهاية من القاعة وفي رأسك يدور ذلك التعبير: قُطِعَتْ يداي، توقفي - قالت إيما - لا تحسبي نفسك بهذه الأهمية.
كان جيداً أنك قلت شيئاً وإلا كنت ستشعرين بالخزي... كنت تعرفين ماذا تعني: أنها استطاعت أن تنجو من سنوات المعتقل أيام الرايخ الثالث، أنها استطاعت الهرب من برلين المدمَّرة قبل إعتقالها مرة أخرى ووجدت ملاذاً في حصص الحدائق تلك أن دموعها انهمرت حين قيعت في السجن لدى "أصحابنا" مرة أخرى "بتهمة ملفقة" - حيث جاءها خبر موت بستالين، وهنت مفاصلها... تشعر بالألم، وتتجاهله، ألم يكن عليّ أن ألح عليها أكثر في السؤال لماذا لم تشف من إيمانها بستالين حتى خلال فترة سجنها لدى "أصحابنا"... قال الطبيب إن الأنظمة الحاكمة في جميع أنحاء العالم يهمها بل ويعمل على إضعاف القيم الفردية أو حتى محوها بقدر الإمكان لدى رعاياها.
لذلك يستحسن ألا يضع المرء نفسه في مواجهة مع تلك القوى التي تقوى في كل موقف تلو الآخر، وأن يتراجع محافظاً على سلامه الداخلي، لن يكون عسيراً على القارئ إستشفاف ما خلف السطور وما تموح به نفس الراوية، وربما الكاتبة، صاحبة هذه التجربة في فترة من فترات ألمانيا الديموقراطية الأصعب بالنسبة لشباب كان ستالين بطلهم الأسطوري بمبادئه وتطلعاته وآرائه، إعتقالات وقتل وتدمير للنفوس... وأسرار تتكشف، وملفات تنفتح...
والرواية بين هذا وذاك تحمل ألماً دفيناً وأحلاماً إنشطاراتها أوجعت النفس وأدمت القلب، لم يكن يدور في خلدها أنها ستعثر على ذاك الملف وهي في تلك المدينة الأميركية الساحرة تحمل قصاصات أوراق سقطت فما يدها بعد موت صديقتها ايما والتي موتها مسّ روحها وحفر عميقاً في قلبها.
تلك القصاصات كانت من السيدة "ل" التي جمعتها صداقة قوية بإيما والتي كانت تعيش في الولايات المتحدة... الخطابات تلك كانت سبباً آخر لتكتشف من تكون تلك السيدة (ل)... لتتكشف أموراً أعمق وأخطر في ذلك المركز في تلك المدينة كاليفورنيا.
لا يوجد مراجعات