حقول الذرة
ينطوي زمن ليخرج من رحمه زمن ويسفك على دربه العبر القديمة والحكايات التي كانت أمثولة لجيل كامل، وكما نحن الذين شهدنا العبور العنيفة، متراساً للزمن القديم والصولجان الحي بيد الزمن الجديد، ولهذا كان علينا أن ننقسم وأن نمتلئ بالشروخ العميقة، قبل أن ننتصر لجزء منا، ويستقرّ ما مات فينا في قاع الأزمنة الموجعة التي شهدنا جنونها. تفجرت سنوات الصمت في لحظة غضب، وكان من الواضح أن البلد لن يعود إلى سابق عهده بعدها. لجأ ملهم وتبعته لمى وغالية إلى مكتبة موفق لنقاش خبر خروج مظاهرة ضد السلطة في السوق الشعبي. "سمعت أنهم تجمعوا في السوق والناس هم من فرقوهم، لكن من أين خرجوا؟ لا أحد يعلم". قالت غالية ونظرت إلى رفاقها. ضرب ملهم كف يده على طرف الطاولة التي يمدّ موفق مرفقه عليها، ويسند رأسه على باطن يده، غاضباً ومتأسفاً يقول ملهم: "أرانب خائفة، بدلاً من الإنضمام إليهم والهتاف معهم للخروج إلى الشوارع الرئيسة والساحات؟ هذا هو العار، أن تقف في صف جلاديك". راحت غالية تدور في المكتبة جيئة وذهاباً في الوقت الذي تحاول لمى استيعاب غضب ملهم، وموفق يكاد ينام مغناطيسياً. ماذا بك يا موفق؟ كأن الأمر لا يعنيك!". انتظر موفق خروجهم طويلاً وصرخ وحيداً في أوقات متفرقة من عمره قبل أن يستكين بين جدران المكتبة لينصت للأقدام المستسلمة في الشارع ولتقليب الأوراق في الداخل. لم يفاجأ لأنه لم يصدق بعد، ولم يشارك في الحديث لأن وعيه عاد به إلى الماضي، عوضاً من سحبه إلى المستقبل. تقف غالية في منتصف المسافة بين ذهابها وإيابهان تفك عقدة ساعديها أمام صدرها وتقاطع كفي يديها، تبقيها متقاطعتين في الهواء وساكنتين. "يجب أن تهدأ لنفهم، لا يمكن أن أسمعك تقول عن شارع طويل، أنهم أرانب خائفة وأبقى مصغية إليك. عليك احترام خيارات الجميع قبل التفكير في احترامهم لخياراتك، صحيح موفق؟". يسوي موفق جلسته ويرسل نظرات تائهة في وجوه المجتمعين، ملهم وغالية ولمى، ثم يسترسل في الشرح: " كلكم على حق. غالية لا تعرف من أين خرجوا، لأنهم خرجوا من جراحهم قبل أن يلجوا إلى السوق من الأزقة والمحال والجوامع، أما الناس فقد فرقوهم كونهم نياماً والهتاف يحاول إيقاظهم، إيقاظنا جميعاً! لا يمكن لك أن تطلبي احترام شعب نائم وبنومه عطل حركة التاريخ". يلتفت إلى ملهم ويكمل: " وفي الوقت نفسه ، لا يمكن لك احتقار شعب تناضل من أجله، إذاً كلكم على حق، لكنني ما زلت غائباً من اللحظة التي حلمت بها طوال حياتي وهذا من حقي! كذلك ينبغي أن نعرف من هم؟ وإلى أين ينوون الوصول: في كل الأحوال لا ينفي تركهم وحدهم". شتت حديثه المسهب عقولهم. جلست غالية على كرسي قريب منها، بدا ملهم مهموماً بعمق وأطلقت لمى تنهيدة أعقبتها باللاقول: "الله وحده يعلم كيف ستجري الأمور". " .. الشعب قام، حقاً قام. ووحده سيحدد نهايات ما بدأه". قال ملهم منتفضاً من شروده. تصمت لمى لامتصاص عصابيته، وتهم غالية بالرد فيتدخل موفق معلناً، بشكل غير مباشر، نهاية جلستهم" " خفّ علينا يا لينين زمانك، فالتفاؤل الكبير يشبه انعدام الأمل". تفشل غالية في كتمان ضحكتها على الرغم من القلق الذي كان مسيطراً عليها، ويخرج ملهم ليعطي محاضرته في الجامعة، تتبعه لمى خارجة إلى مبنى الجريدة، بينما تبقى غالية لتساعد موفق في تتبع الأخبار في المواقع الالكترونية". ما بين الهتاف والأنين .. وما بين التظاهر والغياب مسافة عمر طويلة .. وما بين بارقة الأمل وعتمة اليأس مساحة سجون وسيعة .. وبين هذه وتلك مواطن حالم .. ووطن مسحوق مواطن كان حلمه بأن يكون الغد أجمل .. والمستقبل أفضل .. ووطن يتصارع غرباء على أرضه .. ويحيلون أحلام بنيه إلى سراب .. هي تلك حقول الذرة رواية تحكي مجمل ما تحمله ثورة الربيع العربي من رموز ومعاني. يدفع الروائي بشخصياته .. ملهم، موفق، ياسين، غالية، لمى .. مستحضراً تلك الدوامة التي دار في رحاها كل من يملك اتجاهات سياسية وحزبية و و .. كاشفاً من خلال النقاشات والأحداث عن توجه كل واحد ... ماضيه .. تطلاعاته .. نفسيته .. تتقاطع الآراء .. وتتداخل الأحداث .. ولينهي الروائي حكايته بمشهد يشيع الأسى لدى المتلقى .. فهذا ملهم وقد استلم لعبثية الناس والإكتئاب .. لم نكن نتخيل مهامه بهذه المأساوية، الموت قرار الشجعان، والجنون مصير أصحاب المبادىء الراسخة، لكنه أجاد صناعة وحدته وحياكة حياته مجالاً يترك منفذاً واحداً للماضي [ ... ] و و و .. لا أحد يموت عن قصد .. الحياة جميلة على الرغم من بؤسها .. ويمكن أن تعاش بوصفها مصيدة تتيح لنا تحرك الأذناب [ ... ] .