ملحمة جلجامش... قراءة خاصة
يختلف جلجامش، بطل هذه الملحمة، عن أبطال الملاحم الإغريقية، فبينما كان أولئك شخوصاً خياليين من إبداع هوميروس، كان لجلجامش وجودٌ حقيقي في التاريخ.
إذ تشير سجلات السلالات الحاكمة لممالك ما بين النهرين، إلى أن جلجامش حكم أوروك حوالي عام 2700 قبل الميلاد، وبعد وفاته، ولحقب طويلة، ذاع صيته كفارس مغوار، ومحارب شرس، وكمشيّد للأعمال الهندسية الشامخة.
أما أوروك فقد كانت من أشهر مدن ما بين النهرين، وقد عُثر على بعض آثارها بالقرب من بلدة الوركاء، جنوب العراق، بين البصرة وبغداد، ومما زاد من صيت هذه الملحمة والإهتمام بها، وفي الغرب المسيحي تحديداً، وترجمة اللوح الحادي عشر إلى الإنجليزية في عام 1872م، إذ تضمن هذا اللوح قصة مشابهة في كثير من تفاصيلها لقصة الطوفان الذي حدث في زمن نوح عليه السلام، المذكورة في سفر التكوين، من أسفار العهد القديم، والتي ورد ذكرها في القرآن الكريم أيضاً.
أما الأفكار التي تدور حولها هذه الملحمة، فهي ذات الأفكار التي عُنيَ بها الإنسان على مرّ العصور، والتي يُعنى بها الإنسان اليوم، والتي سيظل يعنى بها حتى نهاية هذا العالم.
تقرر هذه الملحمة، أن الإنسان وإن ظنّ غير ذلك، أشبه ما يكون بِكُرَةِ خيوط الصوف الملوّنة المتداخلة والمتشابكة، حيث يحاكي إختلاط تلك الألوان والخيوط إختلاط المتناقضات في قلب كل إنسان: الحب والكراهية، والقوّة، والضعف، والتعفف، والجشع، والتواضع والكبرياء، والأمل في الخلود والخوف من الموت، إلى غير ذلك مما لا يحب البشر أن يفكروا فيه، أو يعوه، والتي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله سبحانه: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾...
كان البطل جلجامش ذا فضائل جمة، وفي الوقت ذاته كانت رذائله لا تقل عن فضائله، إن قام بالخير؛ كان خيره بلا حدود، وأن أضمر الشرّ، كان شرّه بلا حدود، كان المحارب الشرس، الجسور/ وكان في الوقت ذاته، الفنان وباني الأسوار والمعابر التي تقوم عاديات الليالي، هالت شعبه وسامته وعظمته، فاعتقدوا وأنه في طينتين بشرية وإلهية معاً، أحبوه عندما أغرق عليهم من كرمه، وكرهوه عندما قام بأبشع الأعمال، لم يكن هناك مكان وسط في قلب ذلك المخلوق.
لكن أحداث الملحمة، جعلت منه بطلاً مأساوياً بإمتياز، أودى الموت بحياة انكيدو صديق جلجامش وتوأم روحه، وما إن قضى إنكيدو، حتى ملك هاجس الموت نفس جلجامش.
خلف جلجامش وراءه الملك والقيادة وكل عزيز، وانطلق يبحث عن الخلود، وعن واحد من بني البشر، قبل أن الأرباب اصطفته لينعم بحياة الخلد، جلجامش، هذا المحارب الفذّ، الذي سيطر على أهل بلدته أوروك، وصنع بهم ما لا يليق يملك أن يصنعه بشعبه، وتغلب على من اصطفته الآلهة، وصرع حارس بوابة غابة الأرز المارد، وجد نفسه في أضعف حالاتها عندما صرعته أنامل النوم.
هذا المحارب الصنديد، فقد في غفلة منه، شيئاً غالباً امتلكه بعد عناء، سرقه منه ثعبان لا يزيد طوله على شبر أو شبرين.
وعليه يمكن القول بأن محور هذه الملحمة، هو هذه المأساة الوجودية التي يعيشها بعض البشر، يغزون بعظمتهم، ويسكرون بخمر السلطة، ويأملون بديمومة المال، وهم الضعفاء الذين لا يقدرون على أن يغالبوا سلطان النوم، هؤلاء الذين يأملون في العيش الطويل، في رغدٍ وهناء، ولكنهم في ذات الوقت يمتلئون خوفاً من أن ﴿يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾...
هذه هي مأساة جلجامش!!... هذه هي مأساة كل البشر... هذا، وقد وصلت هذه الملحمة بروايات متعددة، باللغة السومرية، ثمّ جمعها لاحقاً في عملٍ أدبيٍّ واحد، بلغة أهل بابل، المسماة الآكادية، في حوالي عام 1800 قبل الميلاد، إلا أن أكثر النسخ تماسكاً، هي تلك التي يعود تاريخها إلى ما بين عامي 1300 و 1000 قبل الميلاد، والتي كتبت بالخط المسماريّ، على اثنتي عشرة لوحة فخارية، وُجِدَتْ أجزاء منها، صدفة، في نينوى بالعراق، في القرن التاسع عشر، في أطلال مكتبة الملك آشور بانيبال، آخر ملوك الآشوريين.