ست نزهات في غابة السرد
دعي أمبيرتو إيكو سنة 1993 إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكي يلقي، في إطار برنامج "قراءات نورتون الست"-وهو برنامج تنظمه جامعة هارفارد في مدينة ييل (yale) بتعاون مع دار النشر الأمريكية الشهيرة "نورتون"-سلسلة من المحاضرات حول ممكنات التدليل في النص السردي-النص الروائي بالتحديد. وكانت ثمرة هذه الزيارة المحاضرات الست التي يضمها هذا الكتاب المنشور في طبعته الإنجليزية تحت عنوان 'Six Walks in The Fictional Woods' والذي ينشر هنا ترجمته العربية تحت عنوان: "ست نزهات في غابة السرد".
وكما يدل على ذلك عنوان الكتاب، فإن إيكو يقدم لنا تصوراً أصيلاً للرواية وقضاياها استناداً إلى مفهوم الغابة بإيحاءاتها المتنوعة. فالغابة فضاء مفتوح ومغلق، ساحر ومخيف، منفر وغاو، بسيط وشديد الكثافة، قد تتسلل إليه أشعة الشمس، وقد تحجبها عنه الأشجار الكثيفة. وبطبيعة الحال، فإن الأمر يتعلق باستعارة تحيل على العوالم التخييلية التي تبنيها الرواية وفق استراتيجيات متنوعة يمكن اختزال بؤرتها المركزية في العلاقة بين محفلي الإنتاج والتلقي، والمؤلف والقارئ.
وتجد هذه الاستعارة أساسها في علاقتنا بمجمل العوالم التي تشكل وجداننا وطريقتنا في التعاطي مع ما يوجد خارجنا، "فالطريقة التي نتصور بها العالم الواقعي لا تختلف عن تلك التي نتصور من خلالها العوالم الممكنة التي يقدمها لنا كتاب في التخييل"، لذا علينا أن نتعلم كيف نلج الغابة ونتجول داخلها، وكيف نخرج منها وهرب من مسالكها الضيقة، كيف يتشكل الزمن في "غابات لوازي" (إشارة إلى رواية "سيلفي" لنيرفال) وينتشر في كل الاتجاهات ليحجب الرؤية ويضلل المتجول ويؤدي به إلى الفشل في تحديد ساعات الليل والنهار، وعلينا أيضاً أن نعرف كيف يسقط النص عوالم ممكنة، وأخرى ليست كذلك ولكنها تُفهم وتدرك (أن يتكلم الذئب في قصة فهذا أمر مقبول، ولن يكون كذلك في كتاب علمي)، وكيف تكون طبيعة الروابط بين عالم نعرفه ونحس داخله بالضيق والقسوة، وبين عوالم تخييلية متحركة ومتغيرة تمنحنا اللذة والراحة النفسية، وكيف يستطيع السرد تحويل عوالم تخييلية إلى حقائق لا يشكك فيها أحد كما هو الحال مع "بروتوكولات حكماء صهيون" التي نظر إليها الناس (وما زالوا، وهو ما يؤكده مسلسل "فارس بلا جواد") باعتبارها مؤامرات وسيناريوهات لقلب نظام العالم.
فكما أن التجول في الغابة له طعم اللذة المبهمة والمغامرة والخروج عن العادي والمألوف، فإن التجول في العوالم السردية له نكهته الخاصة أيضاً. إنه التخلص من إكراهات الواقعي وقوانينه الصارمة التي لا تستطيع التخلص منها ذات ترغب في تشكيل الحياة وفق أهواء لا ترى من خلال السلوك المألوف. فهذه لعوالم لها طابع خاص، فهي لا تقول الحقيقة ولكنها لا تكذب، فهي تصف حدود الحياة التي نحياها ولكنها تنزاح عن المعيشي الواقعي. إنها كذلك لأنها تقدم لنا عالماً خالياً من تعقيدات الوقائع اليومية التي تحتاج منا إلى مجهود كبير لكي نفهمها وندرك القوانين التي تتحكم فيها.
وهناك ما ه, أعمق من ذلك، فإذا كان التجول في الغابة لعبة نتعلم من خلالها كيف نتبين طريقنا وسط فضاء بلا خريطة، فإن الأمر كذلك في العوالم السردية، فقراءة نص سردي ما "معناه ممارسة لعبة نتعلم من خلالها كيف نعطي معنى للأحداث الهائلة التي وقعت أو تقع أو ستقع في العالم الواقعي. إننا، ونحن نقرأ روايات، نهرب من القلق الذي ينتابنا ونحن نحاول قول شيء حقيقي عن العالم الواقعي، وتلك هي الوظيفة الاستشفائية للسردية، وهي السبب الذي يدفع الناس، منذ قديم الزمان إلى رواية قصص، وهي نفس وظيفة الأساطير: إن السردية تعطي شكلاً للفوضى التي تميز التجربة".
وهذا ما يفسر لماذا نهرب إلى الروايات والأفلام والحكايات المصورة مع أننا نعرف أنها ليست هي الحياة الفعلية ولا هي وقائع اليومي في غناه وتعقيداته وتناقضاته التي لا تنتهي، ولماذا نصدق ما تقوله الروايات ونتماهى مع كائنات لا وجود لها إلا في العالم التخييلي الذي يصوغ حدوده كائن محدود الإدراك ولا يملك قدرة الله وجبروته.
إننا نفعل ذلك لأننا نريد أن نمسك بنسخة بسيطة من العالم الواقعي، ولأننا لا نستطيع تحقيق هذا الحلم الجميل، فإننا نهرع إلى العوالم التي يقدمها لنا لتخييل السردي حيث الحياة مصفاة ومقطرة وخالية من آليات الضبط والتوجيه القدري الذي لا فكاك منه. ولقد حاول "جورج بيريك"، كما يذكر ذلك إيكو في هذا الكتاب (الفصل الثالث)، أن يرصد كل ما يجري في ساحة من ساحات باريس الكثيرة. كان يجلس خلف واجهة مقهى أو يجلس على دكة ويسجل كل ما يراه، وبعد فترة قصيرة توقف، خارت قواه، فقد أنهكته المتابعة ورصد كل ما يجري، وتوقف عن التسجيل. لم يكن بمقدوره أن بني عالماً متكاملاً، لأن الوقائع التي التقطها كانت تفتقر إلى الانسجام والوحدة، لقد كانت الحياة الواقعية أوسع وأعمق من أن تستوعبها عينا ووجدان فرد واحد.
تلكم هي الصورة المثلى التي يستعيرها إيكو من الغابة ليتأمل النص السردي وقضايا بنائه وتلقيه وتأويله. فهذه المحاضرات تتحدث عن طبيعة المحفل الذي ينتج النص السردي، وعن الذات التي تتلقاه وتستهلكه، كما تتحدث عن قواعده وتقنياته، عن صدقه وعن كذبه وأسراره. فالنص السردي غابة، وله ما للغابة من المزايا والخصائص والأسرار، فهو يسحرنا ويقززنا، يرهبنا ويستهوينا، يقدم لنا العالم أحياناً رقيقاً جميلاً مخملياً واضح المعالم والمسالك والدروب فنفرح داخله ونسعد، وأحياناً أخرى يقدمه لنا معقداً ومركباً بلا كوى ولا نجوم تهدي، فنضل داخله ونشقى.
لا يوجد مراجعات