راح يستمع إلى تنغيم الريح فوقه، تأوهات مختلفة بأنّات مجنونة ومتوجّعة، كَـبُكاء امرأة خاله ابن باتل يوم فقدت ابنها الأول. أرهف السمع.. هنالك عزف خفي في هذه الأصوات كلها، طبيعي.. منساب.. لا يسير على إيقاع معيّن. أنْعَمَ في الإنصات حتى أحسّ، بوحي من شعوره المتفاقم بالوحدة، بأنّه اقترب من نفسه كثيراً، إلى حدّ لم يسبق له أن اقترب منها، شعر بأنّه أزال رواقاً في داخله كان يفصله عن شيء ما، شيء خُلق معه منذ خُلق، انفتحت معه جهة مسكونة بشيء غيره، هيمن عليه سكون مسالم، اندمجت كل الأصوات في الخارج مع صوت نبضه، مع الإيقاع الداخلي لتدفق دمه، وأحسّ بشيءِ آخر داخله، كيان آخر غيره، كيان يملكه ولا يمتّ له بصلة، أحد وليس بأحد، لايعرف كيف يفسر هذا الشعور، شعر بهذا الـ "أحد وليس بأحد" واضحاً معه في الجحر، بحيث سأله: "من أنت؟" فلربما أجاب. ارتعدت قدمه، وخمّن: "إنّه شيطان الشعر". لمس حضوره معه وفيه، خفيّ ولكنه يقيني. راح يشكّك: "لا يمكن أن يكون شيطان الشعر قابعاً في داخلي، هو يأتيني من مكان لا أعلمه".
اندفعت برأسه فكرة مجنونة، كما لو كانت من نفث الشيطان الشعر نفسه: "ربما يكون هو الشيء الذي أشير له "أنا" ... وربما ليس هناك شيطان... ارتطم تفكيره بشيء، كما لو أنّه افترق جداراً صلباً وتعثّر ثم مضى يعرج متفكراً: "العالم، قد يكون العالم ليس حقيقياً، مثل الحلم، في الحلم أيضاً أتألم وأجوع وأعطش وأخاف، في الحلم ألوان وصحراء وسماء، وكذلك مطر وإيل وأغنام، وحميدان أيضاً، حميدان وخالي سلطان رأيتهما في الحلم، ما الذي يؤكّد أنّ الحلم واليقظة شيئان مختلفان؟... لماذا لا تكون الحياة حلماً والموت هو اليقظة التي تقطعه" "آآآآه" تأوّه فريحاً عن رأسه جنون أفكاره، وقال في نفسه: "أنا أهذي، جسدي ملتهب، لابدّ أن الحرارة بلغت رأسي". نشق أنفه، وعاد لما رآه في الحلم محاولاً فكّ إشارته... ذئبه شاعر.. ربابه حمراء.. عزف وشدو.. ثلاثة أبيات على وزن المسحوب، الوزن الذي يطرب له، تُمجّد بجنس الذئاب وتفوقها على الرجال! ثمّ.. رأسه مبصوقاً "ماهذه الغرابة؟" تساءل، وداهمته حيرة لما رمته هذه الرموز في ذهنه. على أنّه شاعر، والشاعر – كما قالت العجائز – أقدر من يفكّ ألغاز الأحلام، إلّا أنّه يئس لصعوبة سبر غوره.
قفز جوعاً، منتزعاً ذهنه من الحلم، تفقّد جانب الزوّادة فوق رأسه، وجد أنّ الجيب على الوجه الآخر خارج الجحر، "هذا إذا وجدت شيئاً" قال واضعاً في حسبانه الركض الذي ركضه والقفزات التي خضّته والانعطافات التي كادت تقذف به طريحاً لولا تماسكه، تمنّى في قرارة نفسه ألّا يكون قد خرج منها شيء. حاول إدخال الزوّادة معه في الجحر، لكنها لم تكن لتدخل وهي بهذا الحجم الكبير، حاول مجدداً منكّساً رأسه، يبدو أنّ الجحر لم يسمح بدخول شيء غيره.
فكّر في حيلة يستطيع بها الوصول إلى جيب الزوّادة دون أن يعرض يده للخطر، إخراجها الآن مغامرة خطرة قد تعرّض حياته للموت على أقل تقدير سينهش الذئب أصابعه؛ ما إن خطر له الذئب حتى شعر به على نحو يقيني متحفزاّ فوقه يلعق أنيابه، ينتظر خروج أي جزء منه. "سنرى" تمتم، مقرراً أن يحتمل الجوع والتصلّب الموجع لعضلات فخذيه، واحتباس مثانته المؤلم، وأن يشدّ على نفسه أمام هذا الجوع الضاغط بأنّ ما يفعله الآن ليس إلّا عبثاً سينتهي إلى إخفاق بين فكّي ذئب ملعون، وقرر حاسماً هواجسه: "لن أخرج من هُنا ما حييّت".
رجع للارتخاء. فكّر، مستغلّاً الاقتراب غير المحدود من نفسه، بحياته إذا نجا من الذئب. بدت له عديمة الوجهة، تبخرت فكرة الكريت والبيت والأبناء من رأسه...رغب في تأمل الظلام مرة أخرى، وجده يتيح لذهنة الانطلاق فوق أفكار جامحة وغير مسروجة، غير أن هاجس الذئب لم يترك له فرصة للتأمل، أصاخ سمعه لعله يسمع تنفسه أو صوت حركته أو أي شيء يعزز يقينه بأن الملعون رابض فوقه.
لم تلتقط أذنه غير وشوشة سيقان نبات الثندة من جراء تلامسها من الهواء.. استمرت شكوكه الأفعوانية حول الكمين الذي أعدّه للذئب تتلوى أكثر، داهمة إحساس أكيد بأنّه على الطرف الآخر من الثندة متحفزّاً للقفز عليه.."
يمضي "ذيبان" الشخصية المحورية في تهويماته قابعاً في الجحر إلى لحظة يلمح فيها الذئب يمشي مغادراً وهو يجرّ أذيال خيبته، يُخرج ذيبان جسده من الجِحر متابعاً مسيره وآمال وآلام تتنازعه.. وبغتة صوت يناديه ويكتشف أنّه صوت الذئب.. ويخرج أمامه من قلب الظلام إلى مجال ضوء النار الواهن، مقترباً منه يمشي على قدميه مثلما يمشي البشر ورغم عطبه، استطاع عقل ذيبان العمل قليلاً وعرفه: "إنّه هو" الذئب الذي رآه في الحلم.. أطلق صرخة مروعة حركت السكون الحائم على صدر المكان "يا رباااااه".
وهكذا يقف ذيبان وجهاً لوجه أمام الذئب.. والأحداث تمضي ليجعل الكاتب بطله ذاك البطل الذي ينتصر على نفسه.. ينتصر على خوفه.. ويصل مظفراً وقد تغلّب على الذئب ونهش لحمه الذي ظلّ طعمه يسكنه معيداً إليه في كل لحظة طعم المرارة حيناً وطعم الانتصار في أحيان أخرى.
استطاع الكاتب إلى حدّ كبير خلق حالة من الترقب ومناخات من القلق والأسى مع مَضيّه في عمق النفس البشرية من خلال شخصية ذيبان الشاعر المنبوذ، كاشفاً عن أسرارها في لحظة تماهي ذيبان مع نفسه.. منولوجات وحوارات داخلية.. ماضٍ ينكأ الجراح.. وقوة داخلية تحاول دمله.. وكاتب يضع عوالم خيالية لطيفة حيناً.. مقيتة حيناً آخر.. ليصل من خلال رموزه التي صنعها ليقول شيء ما!!
لا بدّ من وقفة للإنسان مع ذاته... يغريها... ويعود ليجعل الأشياء ويفلسفها لينتصر على مكامن ضعفه ويغدو بطلاً.
يجدر الإشارة أن هذه الرواية قد فازت بجائزة أفضل كتاب عربي في معرض الشارقة الدولي 2017.
No Reviews