العودة الى كاردينيا
كتب السيرة الذاتية والمذكرات من ضروب الكتابة التي غدت تشيع في ثقافتنا العراقية في الاعوام الاخيرة، اذ شهدت نهاية التسعينيات ظاهرة تسرب كتب المذكرات المستنسخة الى سوق الكتب، ويتم نسخها وتداولها على نطاق واسع، لاسيما انها لساسة عراقيين من الشيوعيين المعروفين، والقادة القوميين والبعثيين، او المذكرات الادبية كمذكرات الجواهري وفاضل العزاوي الذين خاضوا معترك الاحداث السياسية الدامية، فمنذ الخمسينيات والحقب التي تلت، ممن يعيشون بقايا شيخوختهم في مدن وعواصم اوروبا بعد اعتزالهم العمل السياسي والركون الى الاعتكاف تحت وطأة العجز والشيخوخة. لكن المذكرات الادبية اغتنت بالحديث عن التجربة الادبية والسياسية لذا كانت ثرية منطوية على ابعاد عدة مثل"الروح الحية " للعزاوي، و"ابجدية الصكار " للفنان محمد سعيد الصكار، و"الشاعر الغريب في المكان الغريب " للشاعر شاكر لعيبي، وغيرهم، ولعل كتاب الشاعر فوزي كريم"العودة الى كاردينيا " الذي نحن بصدد قراءته ينتمي الى الفضاء الادبي والسياسي الذي اشرنا اليه، اذ قال المؤلف في المقدمة:" ما اؤمن به هو السيرة الشعرية للشاعر او الفلسفية للفيلسوف او الموسيقية للموسيقي، السيرة التي تلاحق روح المبدع وهي تتجسد وتنمو وتفلت من اسار الزمن، عبر نتاجه وما يتصل بنتاجه وحده " فيرى في سيرته"محاولة لادراك الماضي على ضوء مشاعر الحاضر ورؤاه وافكاره، وتبدو غير وفية بالضرورة للتاريخ قدر وفائها للذاكرة " فمحلته العباسية في كرادة مريم المطلة على شواطئ دجلة التي نشأ فيها الشاعر وامضى طفولته وشطرا من شبابه، افرد لها العديد من الصفحات كونها تنطوي على الكثير من الذكريات واحلامه الاولى اما خمارة كاردينيا التي حملت عنوان كتابه فهي المكان الاثير الى نفسه .
وما انفكت ذكرياتها تبقى في ذاكرته كاردينيا الكائنة في شارع ابي نؤاس على ضفة النهر قبال العباسية لم تبارحه.
بوابة كاردينيا
اجواؤها ولياليها ووجوه روادها وندلها، انها اشبه بقوى حية غير زمنية وابطالها كذلك، ولو وقفت على بوابة كاردينيا في شارع ابي نؤاس امام النهر لرأيت العباسية او شبحها الذي لا يزال ماثلا اما ناظريك في جهة الكرخ، العباسية وكاردينيا وجهان لحالة واحدة، تشكلان للشاعر"لحنين متداخلين في اغنية رقيقة بالية " رغم ازلتهما قسرا شأن العديد من الاماكن ابان حقبة الحكم البائد.
في الفصل الاول من سيرته يصف فوزي كريم هروبه الى لندن شتاء 1978 اثر ازدياد حملات الاعدام والاعتقالات والقمع ما بعد اواسط السبعينيات التي طالت طول البلاد وعرضها، من قبل زمرة البعث، ما تسببت بموجات الهجرة والفرار الى الخارج وخوض مغامرات عبور الحدود بجواز سفر او بدونه، اذ راحت تنتشر بين الناس حكايات ممن وقعوا بايدي رجال الامن وعملائهم على الحدود، ولاقوا التعذيب والاعدام او المصير المجهول"حين وصلت لندن قبل ايام من اعياد ميلاد 1978 كنت ازن 60 كيلوغراما شاحب الوجه كثير الوسواس بسبب الكحول هاجمت لساني ذا المرارة التي احسستها في نزل فيكتوريا، احسست فجأة بان ايام وصولي الغريب الى لندن قد اصبحت تاريخا هي الاخرى، تاريخا صالحا للتذكر والتأمل ".