الغنوصية من نجع حمادي إلى إنجيل يهودا
قيلَ إنَّ الإنسانَ حيوانٌ يَسْألُ. ولقدْ كانَ سؤالُهُ الكبيرُ عَنْ الوجودِ أوَّلَ أسئلتهِ مُنْذُ عصورِه الأولى التي امتلكَ فيها القدرةَ على التفكير المنطقيِّ, ولا يزال هذا السؤال مدارَ الفكرِ الإنساني, وشاغلَ العقولِ الكبيرةِ, وهَمَّ الأذهانِ المتفكِّرة. يشهدُ على ذلك أساطيرُهُ وهي تُفَسِّرُ بناءَ الكونِ وتَحكي سِرَّ ما يحدثُ أمامَ عينيهِ في الطبيعةِ, وتُبَرِّرُ ما يتحرَّكُ في داخلهِ منْ عواطفَ ومخاوفَ. وتشهدُ لهُ ترانيمُهُ الدينيةُ وهو يخاطبُ مَنْ ظنَّهُ أصلَ الوجودِ, ومالكَ الأسبابِ التي تديرُ الكونَ والمجتمعَ.
لقدْ حارَ الإنسانُ ولا يزالُ في كُنْهِ الوجودِ وأصلِهِ وطبيعتِهِ ومنتهاهُ. وأنتجَتْ حَيْرَتُهُ هذا التأمُّلَ الذي صنعَ ملاحمَ وأساطيرَ كانَ لها عُمْقٌ، ظَلَّ حَيَّاً، تؤوِّلهُ عقولٌ منْ مُدَدٍ تاريخيَّةٍ مختلفةٍ, ومدارسَ فكريَّة متنوِّعةٍ على مّرِّ التاريخِ الفِكريِّ للبشريَّةِ. وكثرَ ما بنى عليها الفكرُ الحديثِ مفاهيمَ ومقولاتٍ, فما أشبهَ الهمَّ الذهنيَّ للإنسانِ الحديثِ بإنسانِ عصرٍ كانَ قبْلَ الآف منْ السنين في المسائلِ الكبرى. وكانتْ الغُنوصيّةُ واحدةً منْ تجاربِ الإنسانِ الفكريّةِ الكبيرةِ والمعقَّدةِ التي تمتدُّ في أصولِها, وفي وجودِها الى ما قبلِ المسيحيّة, وإنْ اشتهرتْ دراستها ضِمْنَ إطارِ الدينِ المسيحيِّ.
ويتردَّدُ القولُ بأنَّ الغُنوصيّةَ هي دِينٌ, وفلسفةٌ, وأُسطورةٌ. وهو قولٌ عامٌ صحيحٌ في عمومِهِ. هي دينٌ, إذْ إنَّها تبحثُ في خالقِ الكونِ, وعلاقةِ الإنسانِ بهِ, وما يترتبُ على هذا الأمرِ منْ سعْي الإنسان مِنْ أجْلِ خلاصِهِ. وهي فلسَفةٌ لِأنَّها تتأمّلُ الكونَ حقيقةً, وأصلاً, ونهايةً. وهي أسطورةٌ مصنوعةٌ, كما نراها نحنُ. ولكلِّ دينٍ أسطورتُهُ, ولكلِّ فلسفةٍ أسطورتُها كذلك, لِأنَّ الثلاثةَ: الغُنوصيّةَ, والدينَ, والفلسفةَ تتأمّل الأمْرَ المُحيِّرَ في الوجود, كنهِهِ ومَعْناهُ. ولا يخلو الثلاثةُ منْ رُوحِ الشِعْرِ, أيضاً, لأنَّ الشِعْرَ العظيمَ حوارٌ معَ الوجودِ الغامضِ المُحيِّرِ, ومحاولةٌ في التَّقرُّبِ مِنْهُ, وكمْ مِنْ فلسفةٍ هيَ قصيدةٌ عظيمةٌ طويلةٌ. وكمْ مِنْ دعوى دينيّةٍ لا تُفهَمُ إلّا بروحِ الشِعْرِ...
لا يوجد مراجعات