لا مستوطن ولا مواطن
هذا الكتاب هو استقصاء عن الحداثة السياسية، بشكليها الاستعماري وما بعد الاستعماري. إنه كذلك بحثٌ في جذور العنف المفرط الذي ابتُليت به المجتمعات ما بعد الاستعمارية. يسعى المؤلف لفهم الاستعمار على أنه صناعة لأقليات دائمة وسعي للحفاظ عليها من خلال تسييس الهوية، ما يؤدي إلى العنف السياسي، وأحياناً إلى العنف المفرط. الجانب الآخر، التحرر من الاستعمار، هو تفكيك ديمومة هذه الهويات. وهو يناقش صناعة الأقليات الدائمة من خلال السرديات التاريخية الموجودة في فصول منفصلة حول الولايات المتحدة والسودان وجنوب أفريقيا وإسرائيل. ولكنه يقدم كذلك ادعاءً معيارياً حول تفكيك هذا الواقع وإلغائه.
يرى الدكتور محمود ممداني أستاذ الأنثروبولوجيا والدراسات السياسية في جامعة كولومبيا، في كتابه الصادر حديثاً "لا مستوطن ولا مواطن: صُنع أقليات دائمة وتفكيكها"، أن السيرة الذاتية الاعتيادية للدولة الحديثة تبدأ بتوقيع "معاهدة وستڤاليا" عام ١٦٤٨، وأنها أنهت بدرجة كبيرة عقوداً من الحروب على امتداد أوروبا، وفيها ولد مكونان رئيسان للدولة الحديثة: التسامح الديني في الداخل، وضمان السيادة المتبادل في الخارج. وأن هذه القصة الأوروبية تعطي درساً أخلاقياً، تكون به الدولة الحديثة مرتبطة بالتسامح، فهي ناتج وضامن للتسامح في الوقت نفسه؛ سواء في داخل الدول أو فيما بينها.
وبدلاً من ذلك، يُرجع ممداني اللحظة المؤسسة للدولة الحديثة إلى عام ١٤٩٢؛ حيث شهد ذلك العام بداية الدولة-الأمة [أو ما يُعرف عادة بالدولة القومية]، والتي تم ضمان استمراريتها لاحقاً بالتسامح الوستڤالي. لقد وُلدت الدولة-الأمة نتيجة تطورين في [شبه جزيرة] أيبيريا. كان الأول هو التطهير العرقي، عندما سعت سلالة قشتالة الملكية لخلق وطن قومي متجانس للإسبان الأصليين المسيحيين بإخراج أولئك الذين كانوا غرباء عن الأمة وتحويل دينهم: اليهود والموريون [أي المغاربة، وهو مصطلح يطلق على مسلمي الأندلس]. التطور الآخر كان السيطرة على مستعمرات فيما وراء البحار في الأمريكيتين على يد السلالة الملكية القشتالية نفسها التي كانت على رأس حربة التطهير العرقي. في هذه القصة، لم يكن الاستعمار الحديث أمراً بدأت الدول بفعله في القرن الثامن عشر. الاستعمار الحديث والدولة الحديثة وُلدا معاً مع خلق الدولة-الأمة. القومية لم تسبق الاستعمار، ولم يكن الاستعمار هو المرحلة الأعلى أو الأخيرة في خلق أمةٍ ما، لقد كان الأمران يتشكلان جنباً إلى جنب.
ولادة الدولة الحديثة من خضم التطهير العرقي والهيمنة ما وراء البحار تعطينا درساً مختلفاً حول الحداثة السياسية: إنها محرك للغزو أكثر من كونها محركاً للتسامح الذي كان لا بد من فرضه على الدولة-الأمة بعد ميلادها بكثير لوقف نزيف الدم الذي تسببت به، ولكن، كانت هذه الحداثة السياسية في أوروبا. أما في مستعمرات ما وراء البحار، وفي مستعمرات المستوطِنين؛ حيث لم يكن هناك فاصل مكاني يوضح الحد بين الأمة وغير الأمة، كانت الحداثة السياسية وليبراليتها تعنيان شيئاً آخر؛ لقد كانتا تعنيان الغزو. بكونها أيديولوجية متمركزة حول الذات الأوروبية وخطاباً سياسياً، لم تحتج الحداثة إلى التسامح خارج أوروبا. وحده الشعب الذي يُعتبر متحضراً كان يجب التسامح معه. الآخرون - المعرّفون باختلافاتهم الثقافية عن الأوروبيين المسيحيين - كان لا بد من تحضيرهم [إدخالهم في الحضارة] قبل امتلاكهم الحق بأن يُتسامح معهم.
لا يوجد مراجعات