الفتنة الثالثة
كان الشام يعبر عن نفسه تعبيراً مجالياً ، فهو بلاد الشام بين الفرات شرقاً والمتوسط غرباً ، والبادية ، أو بادية السماوة في الجنوب الشرقي ، والحدود الجبلية مع آسيا الصغرى شمالاً ، وهي تقريباً نفس الحدود التي حافظت عليها بيزنطة زمن حكمها للشام قبل الإسلام . كما أن هذا المجال كان يعبّر عن نفسه بتداول حقباً تاريخية عديدة مليئة بالأحداث والتراكمات الحضارية التي ساهمت في تشكيل هويّته وهي إجمالاً مجموع الحضارات المتعاقبة عليه من الآرامية والكنعانية إلى الفينيقية إلى الفارسية والهلنستية ثم الرومانية والبيزنطية وآخرها العربية الإسلامية . لقد تم في بلاد الشام حضور قوي وأحياناً تكثّف لشعوب مختلفة أو اقليات تمثل شعوباً تاريخية ، وتالياً أدخلت معها أنماط حياة .. كما أدخلت معها عقائد وطقوس وقيم إجتماعية وفكرية ونُظُم ومؤسسات وتقاليد وأعراف سياسية متصلة بمعنى الدولة . وفي آخر المطاف يمكن القول أن كل موجة أو حقبة تركت سِمات أصحابها وجعلت من الشام قطباً قادراً على الإستيعاب الحضاري بما في ذلك السياسي . وفي نهاية الملحمة أو المسيرة لبلاد الشام يظهر العرب المسلمون الفاتحون والذين انتشروا واستقروا بالأجناد ، وهي أقاليم إدارية تمثلت في دمشق ، حمص ، فلسطين ، الأردن وقنسرين ، وذلك منذ بداية الفتوح وبصفة تدريجية طيلة عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه 3 - 23 ه . ثم تأسست الدولة الأموية منذ 41 ه ، واتخذت من دمشق عاصمة أو مركزاً رسمياً لها .. وهكذا برزت الدولة الأموية ببلاد الشام رسمياً فوق كل الأقاليم التي كانت مرشحة لأن تلعب دور المركز المرجعي للسطة الإسلامية أي الحجاز والعراق . وضمن هذه المقاربات يأتي هذا البحث الذي يسعى الباحث أن يكون بمثابة مسألة غقليمية وتطورية لبلاد الشامخ وللسياسة الأموية عن المآل نحو أزمة الخلافة الأخيرة - الفتنة الثالثة - وتالياً نحو سقوط الدولة . إن حلّ المؤرخين من عرب ومستشرقين وغربيين لم يتناولوا هذا الموضوع بصفة معمقة ومقنعة ؛ إنما ذهبوا إلى دراسة الأطراف وخصوصاً الشرقية ، أي خراسان ثم العراق للبحث عن أسباب وآليات سقوط الدولة الأموية فلخصوها في تحالف العناصر الذمية والفارسية من عجم وموالٍ وثورتها على السيطرة العربية انطلاقاً من خراسان والعراق ، واقتصر العنصر العربي ، أي العباسيون على توظيف ذلك القضب وتوجيهه نحو تمرّد المشرق وخروجه عن قبضة السلطة الأموية. إن هذا الطرح عتّم وغيّب أهم سبب في تحول السلطة من الأمويين إلى العباسيين ألا وهو دور المركز أي الشام ودور الكتلة العربية الحاكمة ، أي الأسرة الأموية وحلفائها من اليمنيين وخصوصاً من قضاعة ، وبالتحديد من كلب وغسان ولخم . إن انحراف الدراسات التاريخية نحو المشرق ونحو عناصر غير عربية وإهمال المركز وتطوراته الداخلية من حيث أنه قوى إجتماعية وإقتصادية كمقاتلة وإشراف ، وفي نهاية الأمر كأحلاف سياسية تضمنت هوية قبلية يمنية أو قيسية وأيضاً كقوة روحية وإيديولوجية وهي القدرية وشعاراتها الدينية ، وكذلك كقوة خفية لم تكشف عنها المصارد تتعلق بدور الأرضية الإجتماعية القديمة السابقة للإسلام وذات الإستقرار الحضري بالمدن من آراميين وأنباط ، وفرس وإغريق وروم ويهود ... وكان دورها في ثنايا هذه الفتنة ... كل ذلك برّر للباحث تقصيه الجذور البعيدة للفئة الثالثة ودراستها بالشام قبل الأطراف . وفي نفس الوقت اعتمدت دراسات أخرى تفسيراً أحادياً للفتنة الثالثة بإرجاعها إلى مسألة الشرعية وبالأحرى لتوسّع الوعي الجماعي بفقدان الشرعية أو إلى مسألة التعصب للقيسية وانتقال العاصمة من دمشق إلى حرّان مما جرّ إلى امتدادات خطيرة للفتنة . صحيح كان فقدان الشرعية والتعصب للحزب القيسي أو للمصالح القيسية مع الوليد الثاني منذ 125 ه ثم مروان بن محمد كانا من أهم عناصر الفتنة وامتدادها على كل المجال الشامي ، لكن يتنبه الباحث هنا إلى ضرورة الحسم في نقطة البداية ، ثم الشرارة الأولى مما أثار لديه تساؤلات : لماذا يُقتل الخليفة فتسقط الدولة ؟ لماذا الإقتتال المدمّر في الشام والخطر قائم في خراسان منذ زمن بعيد ، منذ بداية عصر هشام على الأقل ؟ هذان السؤالان مثّلا عقدة هذا البحث والتي حتّمت على الباحث مواجهة العديد من التساؤلات التي تطرح نفسها فيخفي في بحثه بعيداً عن الإطار الزماني أو الحدود الزمنية لصحيح الأشكال أي البحث عن جذور الفتنة الثالثة 126 - 132 ه .
لا يوجد مراجعات