قلب الظلمة
إن أول ما يشد القارئ إلى "قلب الظلمة" أنها رواية تتميز بذلك البناء المحكم، والرواية تسير على أكثر من مستوى بتناسق مدهش حيث تتقاطع تلك المستويات وتتوازى وتفترق لتلتقي ثانية دون أن تخل بالنسيج الأساسي للرواية، بل على العكس تزيد من إحكام وجمال بنائها الهندسي، فعند الروائي كونراد ليس هنالك ما يحدث صدفة ولا تقال جملة عبثاً. جميع الرجال فوق المركب الجوال (نيللي) يجلسون -في أوضاع مرسومة- عند ملتقى نهر التيمز بالبحر حيث كان المغامرون وفرسان البحر الإنجليز يخرجون إلى العالم لينشروا فيه العلم والمعرفة والدين والرعب والذعر والدمار، وفي الأفق بدا ضباب قاتم كالحداد ستكثف لتطغى على المشهد بعد ذلك قتامة مبهمة تمهد لقصة مارلو التي تشكل العصب الأساسي للرواية: "وكان هذا أيضاً" قال مارلو فجأة "أحمد الأماكن المظلمة على الأرض". ومن تلك المنطقة التي كانت مظلمة في ما مضى، من ملتقى التيمز بالبحر تبدأ رحلة الرجال مع قصة مارلو نحو قلب أفريقيا السوداء لتنتهي "تحت سماء ملبدة بالغيوم" ونهر يتجه نحو "قلب ظلام عظيم" ن وبين هذين المشهدين القاتمين يروي مارلو أكثر القصص ترويعاً، قصة ألوهية كورتز وخراب قلبه ودخول مارلو في تجربة مشابهة إلى ما قبل النهاية بقليل وخروجه منها محطم القلب، منذ البداية يضعنا كونراد في جوف المأساة وتصبح الظلمة المحيطة رابطاً موضوعياً بين مستويي الرواية الرئيسيين، مستوى الجلسة على التيمز الذي تستغرقه رواية ماولو لقصته، والمستوى الحقيقي الذي استغرقته الرحلة بالفعل، وعند النهاية تكون الظلمة الحالكة هي كل ما نرى، ويضحى النظر إلى الداخل أو إلى عمق التاريخ أو إلى الجوار سواء، وقد نغمض أعيننا لنرى في أي زاوية منا تقبع تلك البقعة المظلمة، ويصبح أكثر ما نطمح إليه هو الحرية في اختيار كابوسنا الخاص.
لا يوجد مراجعات