الحجاج في القران
يرى بعضهم أن الحجاج في الدراسات الحجاجية على ضربين: ضرب أنت فيه لا تبرح حدود المنطق فهو ضيق المجال ومرادف للبرهنة والاستدلال إذ هو يعني بتتبع الجانب الاستدلالي في المحاجة. وضرب هو واسع المجال لانعقد الأمر فيه على دراسة مجمل التقنيات البيانية الباعثة على إذعان السامع أو القارئ. يكاد يكون هذا التقسيم من نافلة القول فأهم منه، ما المؤلف بصدده في كتابه هذا، البحث في الحِجاج من جهة علاقته بالجدل من ناحية وبالخطابة من ناحية أخرى.
ويذكر المؤلف أنه وفيما اطلع عليه في هذا الشأن، وجد للحجاج ثلاثة مفاهيم على الأقل: مفهوم يجعله مرادفاً للجدل وهو موجود خاصة عند القدماء وبعض المحدثين العرب، ومفهوم يجعله قاسماً مشتركاً بين الجدل والخطابة خاصة وهو موجود عند اليونان (أرسطو على سبيل المثال). ومفهوم له في العصر الحديث في الغرب؛ وهو مفهوم أدق وأوضح وأعمق من المفهومين السابقين، ذلك لأن الحجاج قد أخذ شيئاً فشيئاً في الاستواء مبحثاً فلسفياً ولغوياً قائم الذات في العصور الحديثة مستقلاً عن صناعة الجدل من ناحية وعن صناعة الخطابة من ناحية أخرى.
وهذا المفهوم الذي للحجاج باعتباره مبحثاً لغوياً خاصة هو الذي سيعتمده المؤلف في بحثه هذا "الحجاج في القرآن الكريم من خلال أهم خصائصه الأسلوبية" وذلك بعد أن أدخل عليه من التغيير ما جعله أكثر ملاءمة لمنهج عمله وغايته. هذا من ناحية، ومن ناحية الخصائص الأسلوبية للقرآن؛ والتي تم بحث الحجاج في القرآن الكريم من خلالها، فإن للقرآن الكريم خصائصه أسلوبية في مستوى المعجم، فهو له معجمه القولي الخاص. وداخل هذا المعجم كلمات بعينها تتكرّر وإن بنسب متفاوتة. وهي مهما اختلفت معانيها، إنما ترد إلى خصائص حجاجية توحّد بينها.
بالإضافة إلى ذلك فإن للقرآن خصائصه الأسلوبية كذلك في مستوى التركيب؛ ففيه توجد تراكيب بعينها تعود ولهذه التراكيب مهما اختلفت طاقة حجاجية تسمها بميسم واحد. كما أن للقرآن خصائصه الأسلوبية على صعيد الصورة ففيه صور فنية تتكرّر هي نفسها أو قريباً منها. ولكنها حتى وإن اختلفت موادها وطرائق بنائها فإنها تردّ إلى وظيفة واحدة هي الوظيفة الحجاجية. بالإضافة إلى ذلك فإن خصائص الأسلوب تتجاوز جوانب المعجم والتركيب والصورة، إلى الموسيقى. ومن الظواهر الموسيقية في القرآن إيقاعه الذي حظي بأكثر من دراسة في العصور الحديثة. لكن الإيقاع مبحث صعب بطبيعته فما الحال إذا جيء به من جهة الحجاج؟
إنه ليس مجرد ثوب تزيين وتجميل خارجي يضاف إلى الكلام ليميّز به الشعر من النثر، كما كان أرسطو ينظر إليه في كتابه "فن الشعر" وليس هو بالمساعد فحسب على جعل الكلام مؤثراً مقنعاً كما كان أرسطو أيضاً يرى في كتابه "الخطابة"؛ وإنما الإيقاع جزء من معنى الكلام الغني لا يتم بدونه، وشكل ذو معنى بل إنه، في رأي الباحث، قد يحمل من الشُحن المعنوية باعتباره دالاً ما لا يحمله المدلول نفسه. وهنا يضيف الباحث بأنه على الرغم من تسليمه بأن الإيقاع شكل له معناه، وليس مساعداً فحسب على جعل الكلام ذا تأثير وإقناع، فإنه لم يهتد إلى الطريقة التي يمكن له أن يوجّه بها هذا المعنى توجيهاً حجاجياً؛ على غرار المعاني الناشئة من الكلمات والتراكيب والصور. وهو ما يفسّر من بعض الوجوه اقتصاره، كما هو واضح من عنوان البحث، على دراسة أهم خصائص القرآن "الأسلوبية" رغم أن إيقاعه قد يكون أهم من خصائصه.
على أن المستويات التي وقع عليها اختيار الباحث لدرسها في بحثه هذا هي مستويات المعجم والتركيب والصورة ليست، مهما كبرت، إلا عناصر لغوية ترد دائماً داخل مركبات كلامية أوسع من المعجم ومن التركيب ومن الصورة، ومن أجل هذا راعى دائماً الإطار القولي العام الذي يضمّها وهو إطار الخطاب القرآني.
نبذة المؤلف:
إن نظرية النظم في القديم تلح بلغة نظريات تحليل الخطاب المعاصرة على ما يحصل في الجملة أو في النص من ظاهرة الانسجام ذات الأصول النحوية دون شك، أكثر بكثير من إلحاحها على ظاهرة الإفادة فيه التي هي ذات منطلقات وأصول تداولية. إننا بدراسة اللغة القرآنية حجاجياً نكون من ناحية أولى في صميم تداولية الخطاب أي تقسيم مصطفى ناصف السابق لمجالات البلاغة عند العرب في مجال بلاغة التأثير التي وقفوها على دراسة الشعر كما يقول ونكون من ناحية ثانية خارج مجال "بلاغة النظم" التي جعلوها لدرس القرآن كما أشار إلى ذلك ناصف أيضاً. وهكذا تسلمنا دراسة الأسلوب حجاجياً (بالمعنى التداولي الذي أردناه للحجاج) إلى نظرية تحليل الخطاب لكن لا في شقها التقليدي القائم على مبدأ الانسجام ونحوية الخطاب وإنما في شقها الناشئ الجديد الباحث في تداولية الخطاب وهو ما من شأنه أن يجعلنا في تعارض مع نظرية النظم وما يمكن أن يكون قد ترتب عليها على صعيد تحليل الخطاب القرآني من اهتمام بانسجامه وتناسبه حتى بوجوهه ونظائره وإن كان التأليف فيها جاء مبكراً جداً.