صورة يوسف
كم هي غريبة الأمور أحياناً قلت لنفسي، لماذا تدفعنا القصص التي نعرف أنها مخترعة، إلى تصديقها، وكأنها حدثت فعلاً، فما سمعته من آلة التسجيل، يبدو أحياناً حقيقياً، وفي أحايين أخرى يبدو أنه قاوم من زمن بعيد، يجعلني أكثر ميلاً للاعتقاد، أنه عن طريق سرده ما جرى على تلك الآلة، كان يخترع القصص لي وحسب، وكأنني أنا يوسف ماني وهو هارون والي، صديقه الروائي، أو أنا المريض وهو الطبيب، الذي يريد أن يشفيني، يقلب اللعبة، يخلط الأسماء والشخوص والحكايات، ولم يستثن حتى أنا، من لعبته، ومن الصعب على أحد غيري غير معني في وضع نفسه في مكانه، تصديق ما سجله على أشرطة التسجيل، أو يفهم ما ضمنه في قصته من لبس ولعب وغموض، سواء تعلق الأمر في وصفه للأماكن، أو في رسمه للجغرافيا، وكأن شيئاً لم يحدث في البلاد، وكأن الأماكن، الشوارع، الأسواق، صالات السينما، لم تتعرّض ذاكرتها، (رغم الحروب والفوضى والقتل والدمار)، للخراب، وكأنه في صحوته تلك، يشبه أهل الكهف أولئك، الذين لا يريدون تصديق، أنهم بعد صحوتهم، وجدوا عالماً مختلفاً، عن العالم الذي تركوه، رغم أنه ليس الوحيد الذي يفعل ذلك، ففي كل القصص التي رواها، كان يصطدم بأناس يتصرفون، وكأن شيئاً لم يحدث، كما لو اشترك جميع الناس في تمثيلية استعراضية كبيرة، بالتأكيد لم يخترعها من أجلي وحسب، إنما اخترعها على أكثر تقدير لنفسه أيضاً، وكأنه اكتشف طريقة مثلى له للبقاء على قيد الحياة: اختراع القصص".
حكايا تروي قصة حسابات كان على صاحبها دفعها ثمناً لما اقترفت يداه. كانت بداية القصة حين استيقظ يوسف ماني من نومه، والساعة قد قارعت الرابعة ليلاً، على صوت يقول له محذراً: "حان وقت قيام الساعة، وعلى القاتل تسديد ديونه". لم يكن ذلك كابوساً مألوفاً، مثل تلك الكوابيس التي بدأت تزور يوسف ماني "الشخصية الحمورية" في الأيام الأخيرة، منذ أن بدأت المكالمة التلفونية ذاتها تتكرّر بإلحاح، والتي كان يسمع فيها الصوت نفسه، يذكره بأن يوم الحساب قد حان، وعليه أن يهيأ نفسه في تلك المرة. وصاحب الصوت يطالب بالثأر، حيث لم يتوقف عن الاتصال به، نهاراً في مكان العمل، وليلاً في البيت، مكرراً عليه التهمة ذاتها، لم يسمح له ولو ثانية واحدة بالرد على أسئلته أو استفساراته، وكأنه كان مقتنعاً بما يقول: "عندي كل الأدلة الثيوتية التي تؤيد ما أقوله"، قال له ذلك ذات مرة.
يمضي الروائي في حكاياته واضعاً القارئ حيناً في موضع المراقب المتشوق، وأحياناً في موضع شخصياته التي تتبدّل وفق الحكاية، إلا أنها دائماً تحكي حكايا واقع إنسان هذا الزمان في بلاد المنتصرين والمسحوقين.