محمد شكري 2 الأعمال الكاملة
"سألت رجلاً مرّ إلى جانبي، كم الساعة، من فضلك؟... ليس عندي ساعة... آسف... إنسان مهذب... يقال أن طيبة الإنسان تظهر على ملامح وجهه... بالذات في العينين... "عين المرء باطن قلبه" هكذا سمعت أو قرأت، لكن اليوم يبدل الناس قلوبهم كما يبدلون أسنانهم المنخورة.
ماذا سيقال، مثلاً، عن إنسان زرعوا له قلباً من مادة لَدِنَةٍ أو قلب خنزير؟ ساعة المتجر تشير إلى الثالثة وخمس دقائق، من المحتمل أن تكون الساعة الآن الواحدة صباحاً أو أكثر قليلاً، أشتاق إلى أن أعرف ذلك الإنبثاق الأول للتفكير، إنه شبيه بخروج فرخ من بيضة، الإنسان يوجد ثم يراقبونه ويفكرون من خلاله، يقولون عنه لبعضهم البعض: "أسمعته ماذا قال منذ لحظة؟ أنه رائع هذا الولد".
بعد ذلك يبدأون معه تلقين مبادئ الأخلاق، يقولون له، مثلاً: هذه لك، هذه ليست لك، هذا قبيح، هذا جميل..." حين يعي الأشياء بوعيه الخاص، يقول لنفسه: "ها أنذا أحس بهذا هكذا، ها أنا أفكر، هذه لي، هذه ليست لي... هذا قبيح حقاً. هذا جميل وهذا لا". حينئذٍ يكتشف أنه يوجد مرتين: مرة قبل وعيه الخاص ومرة بعد أن يعي وعيه الخاص"، أسرتي كانت تقول لي: "لقد كنت تصرخ كثيراً، كنت شرساً، كنت تحب هذا وتكره ذاك". حين بدأت أفكر بنفسي عجبت أن يكون قد حدث ما حدثوني عنه دون أن أذكر منه شيئاً اليوم.
الساعة ما زالت تشير إلى الثالثة وخمس دقائق، غداً، إذا لم يصلحوها، ستشير إلى نفس الوقت، أنا الآن مثل هذه الساعة، لم أجد لي مكاناً بعد، كما لو أن زمني فات أو لم يأت بعد الأماكن محجوزة أو هي في إنتظار من يملك دفع ثمنها، أحياناً تتاح لي الفرصة لكي أوجد بعض العلاقات، لكن الشرور التي وقعت فيها تصرخ في ذهني: "لا أحذر جيداً، لا تثق في هذا الشخص، أنه شرير، ألا تراه كيف ينظر إليك؟ هذا المكان مشبوه...
تذكر تجربتك الماضية، ألزم حدودك... تجارب الأمس لا تصلح لليوم، تجارب اليوم لن تصلح للغد، أعتقد أن هذا ليس صحيحاً بشكل مطلق، هناك مفارقة: إذ قد يحدث تغيير زمني ولا يحدث في التجارب المعيشة سوى تغيير طفيف... أحياناً أعيش إحدى التجارب أكون قد عشت تجربة تماثلها منذ سنوات... جلست على مقعد جرانيتي في الممشى العمومي، شاب يقترب مني، يتنغم لحناً، لوحة تتأرجح في يده...".
مفرق في الوصفية إلى أبعد الحدود... وبعيد عن الرمزية دون إنتهاء ليلامس في سردياته حدود الأشياء والمسميات وحتى المشاعر التي تتحول من خلال عباراته اللانتقائية اللامبالية إلى مجسمات... التصلب الآن في ذهني يسترضي، أنا الذي أخلق ألمي، أنا من أعدمه... نجوم الأضواء تصفعني الآن...".
هو ذا محمود شكري في أعماله التي كانت وبإمتياز أفضل وأصدق من روى سيرته، حتى أن ذلك الذي كان واضحاً في روايته السوق الداخلي تجلى في السير الروائية التي كتبها عن كلّ من الكتاب جان جينيه وبول بوولز وتينسي وليامز وكان مسرح الحدث فيها طبخة، وهاهو وليام بروز يقول فيما كتبه محمود شكري عن جان جينيه...
عندما قرأت مذكرات شكري رأيت جان جينيه وسمعته بوضوح كما لو أنني أشاهده في فيلم... من أجل أن يحقق الواحدة دقة من هذا النوع عن طريق سرد الأحداث وتسجيل ما قيل فيها، على المرء أن يمتلك صنعاء نادراً في الرؤية، أن شكري كاتب".
أما سيرته الروائية حول تينسي وليامز في طبخة فهي سيرة تصف لقاءً من الصنف الثالث، فحين علم أن تينسي وليامز في طبخة، في صيف 1973، قرر شكري فوراً أن يتحرى الزائر الأميركي المشهور، في ذلك الصيف كان شكري كاتباً شاباً وكهلاً معاً 38 سنة، حيث كان قد كتب منذ فترة قصة حياته الرائعة من أجل الخبز وحده، التي ترجمها بول بوولز إلى الإنجليزية، يحكي فيها طفولته ومراهقته الزاخرتين باليأس، والقذارة، والفاقة، وبعد ذلك الطريقة التي تعلم بها (بدأ يدرس في العشرين من عمره) القراءة والكتابة، وهكذا صاغ مستقبله ليصبح كاتباً وأستاذاً.
ورغم المسافة ما بين شكري وتينسي فقد كان لدى الأول إصدار على ذلك اللقاء الذي تبعته لقاءات أسفرت عن هذه السيرة، أما سيرة بول بوولز ففيها كما في مثيلاتها الحدث والفكرة والفلسفة والوقائع التي بمجملها تخط سيرة روائية أقرب للواقع بتفاصيله، من حيث المكان والزمان والمناخات.
لا يوجد مراجعات