قهوة أمريكية
تكمن أزمة الشخصية المحورية في رواية قهوة أمريكية للكاتب يمني أحمد الزين (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2007) في بحثها المحموم عن صورة مستقبلية متخيلة لذاتها، بعدما فشلت في التعاطي مع النموذج القيادي السلطوي الذي يحكم مجتمعها، بل إنها ذهبت إلى احتقاره بممارسات واضحة الدلالة: كم مرة فكرتَ أن تبصقَ في جبهة الزعيم. وقفتَ أمامها، ملصوقة بغراء ورق، للمرة ال.. أنت لا تفعل ذلك بانتظام، إنما حين تضيق الدنيا في عينيك، وتحس بالمؤامرة قريبة وتشع كجمرة في العتمة، ومع ذلك لا تدري كم مرة فكرت في ذلك، أن تبصق في جبهة الرجل (ص 7).
ف عارف الشخصية المحورية في الرواية، والذي يتناقض اسمه مع سماته، يعيش واقعاً مؤلماً، حيث هو محاصَر من العالم الذي بات يحكمه قطب واحد، ومن المجتمع الذي ما يزال يتمسك بقبلية وعصبية بائدتين، ومن بيته/ سجنه الذي يشير إلى واقع حياة عارف البائسة: تطل شقة عارف على الشارع. غرفة صغيرة بحمّام وممر ضيق وزاوية فيها عدّة للطبخ، وضعت فوق طاولة حديدية. ويمكن له من النافذة أن يرى بوضوح حركة الناس في سوق القات، في الضفة المقابلة. وتقع شقته فوق سطح عمارة بنيت عشوائياً، فلا ترتيب في الشقق ولا سلالم واسعة، إنها ضيقة وتفوح بروائح كريهة (ص 30).
ومن هذا العالم الذي يتضاءل ليختزل في شقة من غرفة وممر وحمّام فقط، ينسج عارف عالماً متخيلاً، وشبكة من العلاقات المركبة، التي تجمعه ببقية شخصيات الرواية: عالية التي يتعرف عليها خلال إحدى المظاهرات، فيقع في غرامها، و عائشة التي تعمل في بنك كبير، و سانيا المولودة لأب يمني وأم روسية (وهم جميعاً طلبة في المركز الثقافي)، و كاثرين معلمة اللغة الإنجليزية التي تأتي بديلاً عن ريتشارد إذا تغيب عن صفهم.. ورغم أن لكل من هذه الشخصيات عالمها الخاص وطريقتها في التفكير والنظر إلى الأحداث الدائرة من حولها، إلا أنها جميعاً تفتقد إلى العلاقات الإنسانية الصحيحة، وتعاني من غربة جوانية نتيجة لتشيؤ علاقاتها مع ذاتها ومع المحيطين لها، وهي كذلك منفصلة عن محيطها الثقافي، وتتحدث بلغة أميركية مصطنعة. ظهرت بصورة جلية في الحوارات المبثوثة باللغة الإنجليزية في ثنايا الرواية ومفاصلها الرئيسة.
وتتجلى أزمة عارف الوجودية في بحثه الدونكيشوتي عن قيمةٍ ما لحياته، في عالم يشعر فيه أنه أداة زائدة وغير فاعلة أو مؤثرة ولا تملك مقومات تجعلها صالحة للحياة، على الأقل من وجهة نظر الآخر الناظر لها، والذي هو في مستوى من المستويات يعكس صورة حقيقية لذاتها، بما يحقق لها التوازن الداخلي. وهذا ما يفسر شغف عارف بشخصية الكهل الذي يجلس في المقهى، يحتسي وحيداً الشاي، ويدخن سيجارته بشرود لا يشير إلى حزن أو غمّ، فقد كان كما لو أنه وصل إلى هدنة مع نفسه، بعدما نجح في صنع تاريخ شخصي له:
خيّل إليه [أي عارف] أنهما يجلسان متواجهين، يتحدثان، ويتغلبان على المستقبل. يبدو أحدهما فخوراً بالآخر. تاريخ يجالسه عندما يكون وحيداً، وحين يسأم من الحياة، يأخذه في نزهة صغيرة سيراً على الأقدام، في شوارع المدينة القديمة وأزقتها لما يصير شيخاً (ص 10).
ولذا، أيضاً، ينسج عارف قصصاً عن بطولات متوهمة، مؤكداً ل عالية أنه شارك في المظاهرات واعتقل وعذّب مدافعاً عن أفكاره ومبادئه، بما يمنحه رضاً زائفاً عن النفس، لا يلبث أن يتهاوى، لذا يقرر الاعتراف لها أنه: لم يسبق له أن اعتقل ولم يتعذب، ولم ينتمِ إلى أي تيار سياسي، ولم يوزع منشوراً في حياته، لا في ليالي صنعاء الباردة ولا في نهاراتها المكتظة بالمجانين والمتسولين، وأنه لا يدري كيف اشترك في تلك المظاهرة، وأنه غير مراقَب. سيعترف لها بأنه مخلوق نكرة، لا ماضي ولا حاضر له (ص 155).
وهو في وعيه الكامل باغترابه الذي يتشكل على مختلف المستويات، يعترف أنه هو من يحمل وزر نفسه ويستبعدها قسراً عن محيطها الاجتماعي وواقعها الموسوم بالهزيمة والتشرذم، وذلك ببحثه اللامجدي عن ذاته: كنت فقط تريد بشدة أن تصير شيئاً ملموساً، تشغل ثقلاً ما (ص 138).
وهو في أزمته، يحاول أن يوقع المتلقي في الحيرة/ حيرته هو أيضاً، حيث تختلط الأكاذيب بالحقائق، والأوهام المتخيلة بالوقائع، والأحلام والهذيانات بالواقع، وكأنما كل ما تشكل لدي المتلقي من قناعات تم خلخلتها والتشكيك في صدقيتها: تسلل إليه الخوف، وشعر أنه مشوش وأن كل ما يحدث ليس سوى خيالات، وفجعه التفكير لوهلة أن عالية لم تتواجد أبداً، ليس فقط في أحلامه الحسية، إنما في الواقع وأنها كانت محض أوهام، عاشها طوال ما مضى من وقت (ص 158).
ويتمثل الخلاص بالنسبة ل عارف بالموت الذي تجرع ألواناً منه في حياته، وقد بنيت هذه الخاتمة للبطل بلغة إيحائية تشير ولا تصرح، ووفق مشهد سينمائي بصري تتكثف فيه الأحداث التي شكلت ذاكرة عارف نموذج الإنسان المهمَّش طوعاً أو قسراً - لا يهم ما دام واقع حاله ثابتاً لم يتغير.
يبدأ المشهد حين يقفز عارف إلى الرصيف الآخر من الشارع ليستقل الحافلة، ثم يختار مقعده جوار النافذة، ولحظتها تطارده الذكريات والصور: الرجل الجالس في مقهى 26 سبتمبر ينفث دخان سيجارته من دون علامة على حزن أو غمّ، تحولت إلى صورة للتاريخ الذي تريده، تختلط الآن بصورتك أنت التي رأيتها تنعكس في عيني عبد القوي قبل قليل، نصف عار يعبر الشوارع المكتظة. ورغم إحساسك العميق بالتشوش والفجيعة، إلا أنك لم تجد مفراً من أن تسأل نفسك، هل كنت تطارد تاريخاً أم صورة؟ وشعرت أنك عرضة للمستقبل، وأنه لا يمكنك تلافي خطره (ص 159).
ثم يركز عارف نظره على مسدس في جراب أحد ركاب الحافلة، ليموت ميتة تبدو غير حقيقية أيضاً كشريط حياته، وإنما من صنع خياله وأحلامه، وهي ميتة بطولية متوهَّمة كبطولاته السابقة أيضاً: تخيلت نفسك في سينما خالدة، حيث الميتة الفاتنة، وأغمضت عينيك عندما تصورت الضوء قوياً يندفع فجأة من وسط الشاشة، وأيقنت في هذه اللحظة تحديداً، أن التاريخ الذي حلمت به طويلاً يفارقك إلى الأبد (ص 152).
أثثت مفرداتُ الاغترابِ الروايةَ، التي تعبّر عن واقع الجيل اليمني الجديد الذي عاش تائهاً في عهود (التشطير) وما يزال يفتش عن هوية ما في حقبة (الوحدة) كما يشير الغلاف الأخير للرواية، فبنية المجتمع العربي خاضعة لسلطة أعلى تعتصر العالم بين يديها لتضيق الخناق عليه في قوة أحادية تغزو العالم كله بلغتها وثقافتها..
كما تغزو كل بيت عربي بتفاصيلها التي يشار إليها في الرواية ب القهوة الأميركية ؛ وهنالك غربة في المنزل الموحش المعزول في طابق علوي لعمارة تعد ممراً لسكارى الليل والمعتوهين والمشردين؛ وغربة في الشوارع التي تعج بالمقاهي ومحلات بيع القات والبقالات الشعبية؛ وغربة في غرف التحقيق التي تمارس سلطة تعذيب مطلقة لانتزاع الاعتراف والأقوال التي تمليها هي على المتهم مكممةً فاه ومخرسةً صوته.. لذا تلجأ الشخصية المحورية إلى بناء عالمها الحلمي كما تشتهي، لكنها تظل في نهاية الأمر مضطرة إلى التواصل مع واقعها الحقيقي الذي ترفضه، مما يدفعها للانتحار أو الجنون، وهو ما يشير له قول لأورهان باموق تضمنته افتتاحية الرواية: لا يُجَنّ الإنسان لأنه يريد أن يُجَنّ، بل لأنه لا يريد أن يُجَنّ، ويعتبر هذا همّه .

















الرئيسية
فلتر
لا يوجد مراجعات