تعا ولا تجي مائة عام على ولادة عاصي الرحباني
لم يمضٍ زمن طويل، بعد أن أخذ من أمّه وأبيه ما أخذه، حتى لفّ عاصي الرحباني جسده وروحه بمعاركه مع زمنه وهو مثقل بالهموم والطموح والصّور والأنغام غير المحرّفة، لا لحوم الخجل ولا طائر التدرّج. تستحقّ قصّته أن تضحي قصّة شعريّة، رواية شعبيّة، ملحمة لم تطلب الطلاق يوماً، لا من نجاحه بتشقيق الجدران ولا من تمكّنه من البقاء بطرق سليمة ولا من كشفه النقاط المهمّة في الفن.
عاش على خدّ الأغاني والمسرحيات والأفلام طويلاً، ثم مات في لحظة واحدة بعد أن ملأ اللحظات. لحظات لا تكرّر المكرّر. هكذا، حين مات، لم يمت خائفاً ممّا أنجزه ولا من الموت.
هكذا، حين ترك الأرض، لم يتركها خائفاً، بعد أن عالج العالم الغليظ من غلظة ظلاميين استولوا على العالم بظلامهم قبل أن تضربهم الأجراس بأصواتها المقبلة. كلّفه الأمر أن ينسج صديرية لم يغادرها. لأنها امتلكت نوافذها وروائحها ومواسمها وابتساماتها وهي تتماشى مع زمنه، لا مع الزمن بأقواله المجرّدة وأفعاله المجرّدة.
مرّ على أشياء لم يغادرها. وهي أشياء لا تفسّر. ولأنها كذلك، تركها في آخر الزمان، زمانه، لكي يعرفها أولاد أول الزمان الجديد، الأزمنة الجديدة، كلما أحبّ أحد أن يقوم برحلة أخرى إلى عالم آخر لا يشبه العالم. مات الرجل وهو يبكي على نفسه، حين لم يجد أحداً نائماً إلى جانبه. مات في لحظة البكاء، بعد زمن طويل على سكناه الجديد. أعوام تظهر في كفيه وكأنها عقود وعقود، من قوة الأفكار والمعاني واحتضانها لجمهورها المعرّج على هذا الرجل، من قدم كل الأسباب لكي يخوض الجمهور في التفاتاته الجديدة. وعد منصور وصوت فيروز.
لم تصل العظام إلى التراب إلا بعد أن سكنت الغربان حديقة المنزل الزوجي. لن أزيّن كلامي إذ أشير إلى أن أول العتوّ، التردّد العاتي، التراجع العاتي، من توتر العلاقة بالزوجة وفيروز. لأنهما اثنتان. واحدة تكسر وواحدة ترمّم، حتى انكسرت العلاقة كما ينكسر إناء حرفي ثمين من بلاد الصين. تصبّب العلاقة بالعرق بينه وبين فيروز، كسر الوردة في كفّه، بحيث أضحى عاجزاً عن تغطية شيء بشراشفه كما فعل دوماً. لم يعد في رأي فيروز كما في السنوات الأول وما تلاها. لا يحتاج الأمر إلى مخبر لكي يروي، بأن عودته إلى المنزل عودة على ثلج.
لم يعد بإمكانه العودة مساء إلى منزله العتيق كما فعل باستمرار. حاصره الخلاف حتى مات. وحين مات حتى من حملوه إلى مثواه. مجموعات من الحالمين بامتلاك نبيّ لكي يصبحوا أتباعه. لأن لديه مفاتيح المعرفة. لديه ما يحكّ الأصابع والعقول بالنسب نفسها.
(من الكتاب)





























الرئيسية
فلتر
لا يوجد مراجعات