الخالدية
"الحارة الضيقة تفضي إلى موقف الأوتوبيس، ينقله إلى مديرية الأمن حيث يعمل مراجعاً للحسابات، أمامه ربع ساعة لينتهي من فطوره. عربة الفول خلف المبنى يتجمع حولها البعض من الموظفين والعمال، يحمل الموظفون أطباقهم وأرغفة العيش إلى طاولة خشبية، يقفون بامتدادها، ويظل العمال عند العربة. عيناه في طبقه مستمتعاً بالرائحة والبخار الساخن... وعاودته الفكرة، تلك اللحظات وهو يختطف نظرة للوجوه أمامه والبخار يتصاعد رقيقاً من الأطباق نحوها. كم من فكرة جاءته وذهبت، غير أن هذه الفكرة من دونها تعاوده في إلحاح، حتى أنه قال مرة لنفسه وهو يغادر عربة الفول: "ما أبسطها. مثل كل الأفكار الكبيرة". مكتبة في ركن القاعة حيث يتجمع عشرة موظفين، كان شارداً يتأمل فكرته. مجرد بعض الأوراق يعدّها وينتهي الأمر. لديه ما يكفي من الخبرة ليجهزها بدقة. الخطوة الأولى، دائماً ما يتردد في القيام بها. بعدها لا يوقفه شيء. ولم لا يبدأ؟ مظروف يضع به بعض أوراق بيضاء عليها شعار المديرية، وختم النسر. لديه واحد قديم أرادوا أن يعدموه من زمن لدى وصول ختم جديد واستطاع أن يخفيه، لا يدري ساعتها لما أراد أن يقتنيه، ربما لما يمثله من قوة. عثر عليه وسط كراكيب في قاع الدرج، دفع به مع الختامة إلى الظرف. سيأخذه لدى انصرافه إلى البيت، وهناك يرتب مشروعه في هدوء".
في روايته "الخالدية" يمضي الروائي في سردياته معرباً مجتمعه، كاشفاً عن الأمراض الاجتماعية والنفسي التي ينوء بها وذلك من خلال شخصيات رسمها بدقة، مفتتحاً الأحداث عن مشهد صوتي يقدم من خلاله الراوي شخصية البطل أولاً ثم شخصيات ثانية ثم ثانوية، ولكنها كلها لها دورها في تكوين صورة عن القضية التي أراد الروائي الدفع بها إلى حيز الوجود. موظفاً الراوي للعب دور هام في استنباط أعماق شخصياته. يدخل الراوي متغلغلاً في دواخل ناس ذاك المجتمع، من خلال المنولوج الداخلي حيناً ومن خلال السرد المباشر أحياناً، متوقفاً ملياً عند الشخصية المحورية الموظف في مديرية الأمن حيث يعمل مراجعاً للحسابات وتختمر فكرة خبيثة في ذهنه إذ هو يجيد تقليد التواقيع، فلم لا يزوّر توقيع رئيس قسم شؤون العاملين ويمضي في توقيعات شيكات مزورة ويقبضها لحساب مركز شرطة "الخالدية" الموهوم... وهكذا تدور الأحداث وتتداخل الشخصيات وتتعرى النفسيات ضمن إطار روائي وبأسلوب متناهي في التلقائية والبساطة يحمل للقارئ المتعة والشغف لمتابعة الأحداث إلى النهاية.
لا يوجد مراجعات