الطريق من باريس الى القدس
قبل قرنين من الزمان وتحديداً في تموز عام 1803 بدأ فرانسوا رونيه شاتوريان الذي يعد من أوائل المستشرقين الفرنسيين رحلته التي وثقها بحسب ما رآه وسمعه واستشعره باسلوب يجمع نكهة الأدب بخطوط الجغرافيا والتاريخ من خلال كتابه الموسوم (الطريق من باريس إلى القدس)
والصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر بترجمة الدكتورة مي عبد الكريم محمود، موضحة ان الكتاب يكتسب اهمية من كون صاحبه اديبا ودبلوماسيا ورحالة مؤثر في الثقافة الفرنسية، قدم للباحثين والمهتمين من خلال رحلته هذه آراء ومقاربات لمواضيع وقضايا فنية وتاريخية لاماكن ومعالم فلسطينية..
استغرقت رحلة شاتوبريان 332 يوماً وتعددت أسبابها من الفضول إلى فكرة القيام برحلة حج إنساني ومسيحي والسعي وراء الصور لتدعيم كتابه الشهداء والرغبة في إضاءة جديدة والموعد الغرامي والخيال الرومانسي للفارس الذي كان يطمح للعودة مكللا بالمجد، لينال محبة معشوقته ناتالي دو نواي التي كانت تنتظره في اسبانيا، ناهيك عن هوس الكاتب في جعل الآخرين يتحدثون عنه بحسب اعترافه لجذب انتباه الجمهور، ولهذا غامر برغم صعوبات الخوف من قطع المسافة وخطر العواصف والقراصنة وقطاع الطرق اليونانيين، وأعمال السلب في الصحراء وعدائية الموظفين الأتراك، وإجحاف حكامهم.. يصف شاتوريان برهافة مناظر الغروب وأمواج البحار وسحر الطبيعة، وفي أحيان أخرى نجده مؤرخاً يسرد تواريخ المدن مثلما نلاحظ لدى حديثه عن القدس يسرد تاريخ المدينة ويقوم بتحليل مؤلف لوتاس القدس المحررة كاملاً مستشهداً بمقاطع طويلة منه، وقد فعل الشيء نفسه بخصوص قرطاجة، وفي تارة أخرى نجده سياسياً يدين مساوئ الحكم العثماني. ويحفل الكتاب بإحالات إلى الكتاب المقدس كما يحوي العديد من الأشعار والكتابات والمقولات لمؤلفين وشعراء ورحالة ما يشير إلى كاتب موسوعي واسع الثقافة يقدم من خلال كتابه عصارة الثقافة الإنسانية في الفكر والفنون والآداب، ليكون سفراً عميقاً في أحوال البشر وطبائعهم ومعتقداتهم.. ويتطرق شاتوبريان في اكثر من موقع لما كتبه اخرون عن اماكن فلسطينية، وقد لا تعجب بعض الآراء التي يذكرها المؤلف في كتابه الكثير من القراء والكتاب العرب عن فلسطين وناسها خلال حكم استبدادي استمر قرونا، تداوله الحكام المسلمون الذين تطاحنوا فيما بينهم لأسباب توسعية وسياسية، واستعمل كل منهم الدين سلاحاً في حروب مصلحية.. وقد يكون المؤلف بالغ في بعض الوصف، مثلاً عندما ذكر مسالة العثور على الماء العذب على طول الشاطئ الفلسطيني: بإمكان المرء ان يجد المياه العذبة على امتداد البحر صعوداً نحو غزة، ويكفي ان يحفر المرء الرمل بيده، لينبجس عند مستوى مياه البحر الماء العذب، وقد قمت بنفسي بهذه التجربة المثيرة مع السيد كونتيسيني بدءا من الزاوية الجنوبية للمدينة حتى مقام احد الاولياء الذي يمكن رؤيته من على مسافة قليلة من الساحل.. وتطغى نبرة الاستعلاء على لغة الكتاب فهو يتكئ على مقولة المركزية الأوربية التي تنسب الفضائل لأوروبا، بينما تنظر إلى شعوب الأطراف والمستعمرات نظرة مختزلة لا ترى فيهم سوى مجموعة من الرعاع المتخلفين. هذا ما يصرح به شاتوبريان في أكثر من موقع في الكتاب، إذ يقول: وباختصار، فإن كل شيء ينم لدى العربي عن الإنسان المتحضر، العائد للسقوط إلى حالة التوحش، وعن الأتراك يقول: إنهم يمضون أيامهم بالبطش بالناس، أو بالاستراحة على سجادة بين النسوة والعطور. وأن السبب العميق الذي ولّد لديه هذه الكراهية للأتراك هو الدين الإسلامي بحسب رؤيته انه لا يحث المؤمنين على دفع الحضارة نحو الأمام، ولا يعلمهم أن يعنوا بالحرية، وهو في هذا اقل مستوى من المسيحية، لذا فإن الحروب الصليبية كانت مبررة في نظره فيقول: لم تكن الحروب الصليبية أعمالاً جنونية، لا من حيث مبدئها ولا من حيث نتيجتها.. فالأمر لا يتعلق فقط بتحرير القبر المقدس، بل بمعرفة من الذي سيفوز في هذا العالم، هل العقيدة المعادية للحضارة والمؤيدة بنظامها للجهل والاستبداد والاستعباد، أم العقيدة التي أحيت في نفوس المحدثين عبقرية علم القدماء، وألغت العبودية.. والملاحظ أن الكتب والمصادر التاريخية التي غرف منها شاتوبريان حاضرة دائما لعقد المقارنات. فبعدما تعمق الكاتب طويلا في الكتب المقدسة، وفي تاريخ الأديان والملاحم والأساطير، فإنه يسعى، الآن إلى معانقة الآثار التي توحي بالماضي، بغرض عقد مقارنة بين تلك الرموز والأماكن والأسماء، وبين أصولها الحقيقية على أرض الواقع. فالجزر اليونانية، والبر الآسيوي الموصل إلى القسطنطينية مهمان بالنسبة له بقدر ما يذكر ان بملاحم أخيل والحروب الطروادية وبطولات الإسكندر المقدوني. ويبذل شاتوبريان جهدا لتذكّر مقاطع من الإنجيل لها صلة بنهر الأردن. وعند خروجه إلى شوارع القدس لا يرى مدينة حية، بل موقع سرد تاريخي، فهو جاء إلى فلسطين أساساً ليعيشها كما انعكست في العهدين القديم والجديد. ومصر بدورها ليست سوى ماض، إنها مهد العلوم وأم الأديان.. ولأنه لا يحب سوى زيارة الأماكن التي خلدتها الآداب والفنون، وورد ذكرها في الأساطير والملاحم، فإن وجوده في القسطنطينية لبضعة أيام كان كما يقول: أمراً شديد الإزعاج، فهي تخلو خلواًَ شبه تام من النساء والمركبات ذوات العجلات، ولا يرى المرء فيها سوى قطعان الكلاب الهائمة، وحشوداً من البشر الصامتين، لكأن الإنسان هناك يريد أن يمر من دون أن يراه أحد، وله على الدوام هيئة من يريد أن يتوارى عن سيده. إن ما تراه ليس شعباً، بل قطيعاً يقوده إمام، ويذبحه إنكشاري.. ويأسف شاتوبريان على تخلي فرنسا عن مستعمراتها في ما وراء البحار، لقد طغت النزعة العنصرية على معظم أعمال شاتوبريان التي عالجت التماس الحضاري والديني بين الشرق والغرب، وكان لذلك ولأنانيته المفرطة موضع انتقاد من معاصريه، فهو يقول تعليقا على هذا الكتاب: أنا أتحدث على نحو ابدي، عن ذاتي، فالآخر بالنسبة لشاتوبريان هو ذلك الشخص الذي كان الحلم به أو تخيله سابقين على اكتشافه، فلم يتم إدراك الواقع مباشرة إلا بواسطة الصور التي تحملها الثقافة الغربية عن البلد موضع الرحلة.
بقي القول ان فرانسوا رونيه دو شاتوبريان يحتل مكانة في تاريخ الأدب الفرنسي، ويعد من ابرز رواد المدرسة الرومنطيقية التي عمت الأدب والفن في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وبرغم مرور أكثر من قرن ونصف على رحيله فإن أعماله مازالت تنشر فضلاً عن دراسات نقدية موازية تتناول أدبه، ولد في سان مالو بفرنسا لعائلة حزينة فقد كان أصغر أخوته الستة، إلا أن أربعة منهم ماتوا تباعا. كان والده مثالاً لأرستقراطية القرن الثامن عشر، إذ جاب البحار وسافر كالمستكشفين إلى أميركا، وجمع ثروة كبيرة من التجارة عبر المحيطات. في عام 1791 سافر الى اميركا ليرصد عن كثب حياة الإنسان الفطرية المتصالحة مع الطبيعة على النحو الذي يجسدها الهنود الحمر. الحياة البعيدة عن الصخب والانحطاط والجشع ومذابح الحضارة. في سنة 1806م انطلق شاتوبريان في رحلته إلى الشرق، والتي كانت تخامره منذ صباه فيقول عنها: لقد طفت، ودرت دورة كاملة حول البحر المتوسط من دون مخاطر تذكر، ومثل القدامى زرت اسبرطة ومررت بأثينا.وحللت بالقدس وسوت بالإسكندرية وتفرجت على آثار قرطاج. وأخيراً استسلمت لجمال قصر الحمراء بالأندلس.. بعد انتهاء الرحلة بثلاث سنوات، شرع في كتابة تفاصيلها، وأصدرها، للمرة الأولى، سنة 1811 في كتاب حمل عنوانا طويلاً: رحلة من باريس إلى القدس، ومن القدس إلى باريس مرورا باليونان، والعودة من مصر وبلاد البرابرة واسبانيا.
لا يوجد مراجعات