حبق اسود
في البراري المؤثثة بالسماء والتراب حيث يتلاشى كل شيء، وجده، منذ طفولته، استهوته البيوت المهجورة الخربة، لم يجرؤ على دخولها وحيداً دون رفقة، لكنه الليلة دخل المنزل الذي بلا سقف فالخوف إحساس يتعلق بالجسد .. والحلم انطلاقة روح، وهو يخطو فكر بالناس الذي سكنوه، ورسم ملامحهم، ثم تمددت الفكرة على العقل ورآهم، انفصل عن جسده، وتبع الطفل الذي خرج من إحدى الغرف ودخل أخرى، كانت هناك ترضع برعماً وردياً وحين رفعت رأسها عن رضيعها وجدت كمن رأته، ذابت في حجر الجدار، انتهى الحلم، لم يصحُ لكن الحلم انتهى كشريط فيلم قديم، انتهى، غاب البيت وبقي هو معلقاً في الفراغ المغبش. وعندما أدرك الصحو شعر بالسعادة والإمتلاء، لقد حصل أخيراً على ملكه الخاص، ما دام السلطان يملك الأرض والسما والبشر وكل ما تحت السماء والأرض، فهو ككائن فانٍ لم يكن يملك إلا ما يهبه إياه هذا الصباح مستمتعاً بتفاصيل حلمه الذي خرج منه، علم بأنه يملك كنزاً سرياً لن يأتي أحد ليسلبه إياه، فحتى اللحظة لم تصل أطاع السلطان الخالد الأبدي إلى أحلام مواطنيه. الأحلام هي الأملاك الوحيدة التي بلا ضرائب، وهي الحياة الأخرى غير المراقبة التي عاشها الأتباع تحت قانون واحد عنوانه (لا تبح) أملك ما تشاء من الأحلام لكن لا تبح بها، فماذا لو حدث وباح له توأمه نوار بسلسلته من الأحلام إذاً لتوجب عليه اعتقاله بنفسه كما درس في كلية الشرطة لعامين كاملين (المسّ بهيبة السلطان هو مسّ بأمن الوطن)وأحلام نوار تدور جميعها حول حكاية واحدة تنتهي بإعدام السلطان والولاة والوزراء، مرة يراه معلقاً ببدلة الطيار، ومرة بنياشينه الذهبية ومرة بابتسامته الإحتفالية التي يظهر بها في معظم صوره وعندها يسير هو وبيده قلم يمحي الحبور يتسلق المشنقة ويمسح الإبتسامة الجامدة تاركاً مكان الفهم لطخة بيضاء. من الغرابة حقاً أن يكونا توأمين، الشرطي العاشق لامرأة الحلم، وصاحب أفظع حلم في أرجاء السلطنة، أخوين متطابقين بالملامح والطول واللون، مختلفين فقط بالرؤية التي لا كابح لها، أمر لم يدركاه لذا سارت الحكاية كما أرادها الراوي. كان يا ما كان ... إنه مفتاح الراوي المفضل لكل حكاياته، لا يمكن توفر مفتاح آخر طالما قرب باب المقهى سيق وقيد ينتظران هفوة تسقطه في قاع الواقع وتحت حدّ الموت. كان يا ما كان في زمن ما وفي وطن ما عاش إخوان توأمان، قرب باب مركز الشرطة الكبير أودع خيالاته التي رافقته طوال الطريق، عند المجنون الدائم الوقوف قرب البناء المردد لعبارات متوعدة هناك ترك دفء وجه شقيقه الذي احتفظ به بين عينيه ونفسه، ودّعه منذ ساعة في محطة الحافلات، استقل نوار أحدها لتصل به إلى المدينة المنسية في أقصى الوطن حيث يمضي خدمته الإلزامية في جيش السلطان، بينما توجه هو إلى مركز شرطة المدينة حيث يعمل بشكل دائم تحت إمرة الوالي مباشرة .." وكان يا ما كان .. بيت وتوأمان وأحلام .. وذات يوم اشتعلت النار في البيت الواسع الذي يسمى وطناً وتلاطشت الأحلام ليحل محلها حقيقة قتلت ودفنت في مكان مجهول، وتبادلت المدن العزاء، قبلات معدية باللهب .. وليصل الجنون عنان السماء .. ففي المدن التي كانت هيبة السلطان ما تزال حاضرة فيها، لاحقهم الولاة وزجهم في السجون بتهمة التحريض والمسّ بأمن الوطن، وفي الأجزاء التي سيطر عليها المتطرفون أُعدم من ظهر منهم بتهمة المجون ونشر الفسق، حتى كراكور وعيواظ اعتُقلا وعُلّقا على الخازوق وتناثرت حشوتها من القطن ... وكان يا ما كان وطن وزوجة صرحت نادية زوجاً وأخوين انضما للمتطرفين سقطوا في طاحونة الحرب العتية وتركوها، تأن صرخ بعويل جارح كأنباب نهاية تبتلع الكلمات .. وتبتلع حتى حكايات الراوي ... وتتناثر كان يا ما كان كتناثر أحلام من حلموا بوطن .. تلك هي حكاية الحبق الأسود حكاية وطن ذبحه أبناؤه من الوريد إلى الوريد وطرفين تباريا في تعميق جراحه وكاتبة ملكت من روعة البيان والخيالات ما جعل القارىء يسير بخشوع في تلك المواكب الجنائزية ودموعه يذرفها على وطن تداعت عليه كل الفتن حتى بات على وشك السقوط.
لا يوجد مراجعات