الرياضيات حرفة عقلية
يشرح الكتاب الأسباب التي تستدعي تحويل الرياضيات إلى "حرفة عقلية"، وكيفية استخدام بعض الأفكار الرياضية في مقاربة كثير من القضايا العامة، وكيفية اصطناع "منظومة" عامة، يمكن استخدامها في المجالات السياسية، والاجتماعية، والعلاقات الدولية، والأعمال ... إلخ. ومن ثم، يعرض مقاربة رياضية عن "الصراعات من منظور الجشطلت". ويتحدث عن "أثر الفراشة" تاريخيًا، ويتخذ من الواقع العربي أنموذجًا. ويبحث في ما إذا كان لحركة الفراشة أيّ تأثير في استقرار المنظومة الكونية؟ ثم يجيب عما إذا كان ثمة علاقة لذلك بالمنظومة الاجتماعية أو السياسية، وعما يجري في الواقع العربي، وإن كان من الممكن "نمذجة" السلوك الإنساني أو المجتمعي رياضيًا. ويشدد المؤلف على دور طبيعة البرهان الرياضي في صياغة أيّ "منظومة منطقية" في الخطابات، أو في الإبداع الأدبي، وفي الرؤى الفلسفية، وحتى في الحديث العادي. ويتناول إحدى فوائد الرياضيات في العلوم السياسية، وفي فهم سلوك مجموعة من البشر، وأحيانًا في توقعه، إضافة إلى تأثير الرياضيات في النمو الأخلاقي إن أحسنوا دراستها كحرفة عقلية.
ما هي الرياضيات؟
ثمة سؤال يُطرح دومًا يردّده كثيرون في كل زمان ومكان، وهو: ما هي الرياضيات؟ فضلًا عن أسئلة أخرى، مثل: ما هي فائدتها؟ وكيف تولّدت؟ ... وغير ذلك من الأسئلة التي لا تنفك تُطْرَح في هذا الإطار. ولكن، يبقى في صدارة تلك الأسئلة وأكثرها أهمية وحيوية سؤال "ما هي الرياضيات؟"، الذي قلَّما نجد من يتحدَّث عنه، أو يجيب عنه في المحاضرات الجامعية المعنية بتدريس الرياضيات، أو حتّى في المناهج المدرسية في مقرَّرات الرياضيات؛ لأن معظم الرياضيين يقرّون بأن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ليست أمرًا يسيرًا للمبتدئين، ويسهل ذلك مع تقدُّم الدراسة في الرياضيات، على الرغم من أن هذه الأسئلة مشروعة، وثمة حاجة ماسَّة إلى الإجابة عنها؛ فأيُّ فرد يعرف ماهية الرياضيات وفائدتها أكثر كلما زادت حصيلته المعرفية منها. وتتناسب مساحة الحديث عنها طرديًا وحجم هذه الحصيلة، ولذلك لا غرابة إذا لم نصادف في وسائل الإعلام المختلفة مقابلة مع أحد علماء الرياضيات أو المختصين بها، لهذا يتندَّر الرياضيون بالقول إن رجل الشارع يستطيع أن يتذكر أسماء كثيرة لفنانين، أو قادة سياسيين، وربما منجِّمين، ومصممي أزياء، ولكن هل يستطيع أن يتذكَّر ثلاثة أسماء لرياضيين من القرن العشرين، على الرغم من كثرتهم؟ أو هل يستطيع أن يقرن عظماء الرياضيات أمثال كارل فريدريش غاوس Carl Friedrich Gauss (1777-1855)، وغيورغ فريدريش رايمان Georg Friedrich Riemann (1826-1866)، وكورت غودل Kurt Godel (1906-1978) بأحد المفاهيم الرياضية التي أثروا بها الحضارة الإنسانية؟ لقد أفضى هذا الواقع إلى أن تعيش الرياضيات عزلة كبيرة عن الناس العاديين؛ لأن ثمة فجوة معرفية كبيرة تزداد مع الزمن بين ما يقوم به الرياضيون وباقي العالم، مع أن هناك سوءَ فهمٍ كبيرًا لدى قطاع واسع من الناس لماهية الرياضيات، وخصوصًا حلتها الحديثة؛ إذ لا يزال معظم هؤلاء يعتقدون، وإلى يومنا هذا، أنها تنطوي على مجموعة من الإجراءات والخوارزميات بهدف القيام ببعض الحسابات.
نعم، ربما كان هذا حالها سابقًا، إلى ما قبل القرن التاسع عشر الميلادي، أما اليوم، وبعد التطور الهائل الذي طرأ عليها في القرنين الأخيرين، أضحت تتناول كل شيء تقريبًا، ومن دون أيّ مبالغة! في حين أن بعضهم لمّا يزل يعتقد بأنها ليست أكثر من مادة علمية كغيرها من المواد الدراسية، كالفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا (علم الحياة)، وأنها معنية بدراسة مجموعات الأعداد بمختلف أنواعها، والعمليات الرياضية عليها، فضلًا عن دراسة بعض الأشكال الهندسية، والقليل من المبرهنات التي تتعلق بها، مع بعض مبادئ الجبر ... إلخ، وإذا بالغوا في الإسهاب أضافوا إليها طرق التفاضل والتكامل، وبعض المعادلات التفاضلية. لقد كان هذا حالها قبل قرنين من الزمن أو أكثر، أما الآن، فقد أضحت منهجًا للتفكير، والرئة التي تتنفس بها جُلُّ العلوم الحديثة. بل الأكثر من ذلك أنها آلت إلى أداة خاصة للتواصل بين العلماء. يقول الرياضي البريطاني (اللبناني الجذور) مايكل عطية (1929 – 2019): "إذا كانت اللغة هي الصفة المميزة للجنس البشري، فالرياضيات هي الصفة المميزة لجنس العلماء".
"البنية" في الرياضيات
إنَّ صياغة مفهوم "البنية" في الرياضيات المتداول حاليًّا أتت تتويجًا للنزعة الصورية (الشكليَّة Formalisme) التي أسَّسها الرياضي هيلبرت في مطلع القرن العشرين، حيث تعبّر هذه النزعة عن إحدى مدارس فلسفة الرياضيات؛ لأن من المعروف أن ثمة ثلاث مدارس فكرية تُعنى بفلسفة الرياضيات، وإحدى هذه المدارس الأكثر انتشارًا وشيوعًا هي المدرسة الصوريَّة، التي أفرزتها الموضوعات (المسلّمات) المتعلقة بالهندسة الإقليدية، التي أوجدها الرياضي هيلبرت، والمعروفة باسم "مسلّمات هيلبرت" Hilbert's Axioms. وقد ضمّنها هيلبرت في كتابه الذائع الصيت أسس الهندسة Grundlagen der Geometrie الذي نشره في ألمانيا في عام 1899. ثم تُرجم إلى اللغة الفرنسية بُعَيد ذلك مباشرة، كما تُرجم إلى الإنكليزية في عام 1902. وتنص وجهة نظر هذه المدرسة على أنَّ الرياضيات تهتم بأنظمة صورية مرمَّزة، يمكن عدُّها مجموعةً من التطوّرات المجرّدة، وذات عبارات مؤلَّفة من رموز، وبياناتها عبارة عن صيغ تستخدم هذه الرموز، وأنَّ أساس الرياضيات لا يكمن في المنطق، بل تحديدًا في مجموعة من الرموز والإشارات، وأنَّ ما تنشده الرياضيات هو دراسة بُنَى الأشياء من خلال إيجاد نظام من الرموز للتعبير عن هذه الأشياء؛ فالرياضيات - من وجهة نظرهم - تهتمُّ بالخواص البنيوية لأنظمة الرموز بعيدًا من معانيها. والرَّمز في حدِّ ذاته مجرَّد عن أيِّ معنى، أو مغزى، باستثناء حالة ربطه بالرموز الأخرى، أي إنَّ معنى الرَّمز يظهر عندما تظهر "العلاقة" مع غيره من الرُّموز.
لقد لاحظ الرياضيون منذ زمن بعيد أن الاهتمام بالبنية سيؤثِّر على نحو اقتصادي في التفكير. وهذا الجانب على قدر كبير من الأهمية في تطور الرياضيات، وإن كان لا يبدو بسهولة للعيان. ولتوضيح ذلك، نشير إلى أن عملية اكتشاف - إن جاز التعبير - المستقيم، أو القطعة المستقيمة، كانت علامة فارقة، وربما نقطة تحوّل، في تاريخ الفكر الإنساني عمومًا، وفي تاريخ الفكر الرياضي خصوصًا، بغضّ النظر عن كيف، ومتى، وأين، كان ذلك؟ ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا الاكتشاف لا يقلُّ أهمية عن اكتشاف الإنسان البدائي النار؛ لأن الإنسان حينها ذاق طعم الاقتصاد، ربما للمرَّة الأولى، ليس في الوصول إلى مكانٍ ما انطلاقًا من مكان معين، بل بتجريد ذلك، واستخدامه في نواحٍ عديدة من الحياة. وهذا الفتح العلمي قاد الإنسان إلى مزيد من الفتوحات الرياضية الأخرى المستمرة إلى يومنا هذا. وما يهمّنا في هذا السياق أن الدوافع النفسية الدفينة هي التي دفعت الإنسان البدائي نحو مقاربة هذا الاكتشاف، وهو حُبُّ الاقتصاد عمومًا، والاقتصاد في الحركة خصوصًا، وليست القيمة العلمية لهذا المفهوم؛ لأن ما بُني على المستقيم أو القطعة المستقيمة من هندسات وغير ذلك من علوم رياضية لم يكن معروفًا عندها، أو قابلًا للتوقع، أو حتّى من الممكن تخيّله في تلك الفترة. ففي اكتشاف المستقيم، تعلّم الإنسان الاقتصاد، والوصول إلى ما ينبغي بأقصر الطرق، إلى أن أضحى هذا هدف العلم بعينه، وهو "الاقتصاد في التفكير".
"أثر الفراشة" في الواقع العربي
جوهر الفكرة هو أن معظم ظواهر الحياة تخضع لنوع معين من قانون عام، يتضمن أن أيَّ تغييرات تطرأ عليها، مهما كانت طفيفة، تؤدي بعد مرحلة، ربما طويلة، إلى تغييرات جذرية، لا يبدو أن لها علاقة بالبداية، أو ربما ننسى كيف كانت البداية؛ لذلك فإن "القيم الابتدائية" التي تنطلق منها "الأنظمة الدينامية" سرعان ما يصبح ليس لها علاقة بما يجري، وهذا هو الحال في الظواهر الاجتماعية. ونعني بذلك، على المستوى الإنساني، أن أيَّ تغيير، وإن كان بسيطًا، في خيارات الإنسان، سيؤدي إلى تغييرات جذرية بعد مرحلة من الزمن. وتتضح صورة التغيير أكثر كلما طالت المدة الزمنية؛ أي إن الأمور قد تبدأ صغيرة جدًّا ثم تكبر، وتتعاظم إلى درجة من التعقيد يصعب عندها فكُّ خيوطها، أو حتّى فهم أسبابها. وهذه الدراسة تحاول أن تشرح "الآلية" التي تجعل كثيرًا من الأمور تصل إلى درجة كبيرة من التعقيد أو السوء؛ لأن الوعي بهذه "الآلية" يجعل من الأسهل معالجة الأمور، أو على الأقل قد تحول دون تكرارها في مجالات معينة. والعلاقة في هذا السياق ليست بالضرورة أن تكون فعلًا وردَّ فعل، كما يحدث في بعض الحالات، ثم رد الفعل على رد الفعل الأول ... وهكذا دواليك، ففي حالتنا هذه يكون هناك على الأغلب وعيٌ بردِّ الفعل. بل كما يبدو للإنسان المعني بتلك الأحداث، فإن الأمور تسير على نحو طبيعي وسلس، وكأن الحدث يبحث عن متمّم نفسه.
وهذه نظرة تأملية (شاملة) في ظواهر الحياة، وليست جزئية، أو ذرية. أو بتعبير مجازي، فإنها ليست على مستوى النطاق الضيق (الميكروي Micro-level)، بل على مستوى النطاق الواسع (الماكروي Macro-level).
وأخيرًا، ثمة سؤال يمكن أن يطرحه بعضهم: لماذا يقوم "المعالج" بعمله على هذا النحو وليس على نحو آخر؛ وهذه مسألة لا تدخل ضمن إطار اهتمام الرياضيات، بل تدخل ضمن إطار علوم أخرى.
لا يوجد مراجعات