الانجيل الخامس لنيتشه
هكذا هو نيتشه بالنسبة للضمير الألماني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: مدان بالنسبة للبعض، مشارك أو متواطئ في فعلة شنيعة لم تمح السنوات بعد آثارها، دائن بالنسبة للبعض الآخر، معتدى عليه، متعشّق عليه ومنهرب عنوة واغتصاباً.
داخل هذه الزوبعة المتضاربة يتدخل بيتر سلوتردايك مرة أخرى ليعرض بعض الجوانب من عمل نيتشه وشخصه في هذا الكتاب تحت إنارة مختلفة: نيتشه "الواهب" "المبذر المبدّد الذي يستفزّ السخاء، نيتشه الشبيه بشمس الظهيرة التي تلهب وتبهر لا لشيء إلا لتذكرنا بالطاقة اللامتناهية التي تؤسس الحياة وسلوتراديك الذي ينفض الغبار عن نيتشه اليوم هو هذا الفيلسوف الألماني الذي يدور حوله-معه الآن جدل ساخن حاد ومنفعل في بعض الأحيان. يقتفي آثار نيتشه كما كان نيتشه يقتفي آثار ديوجانس. وسلوتردايك اليوم لا ينفض الغبار عن نيتشه ليحييه كصنم أو مدرسة، بل كفيلسوف بمعنى "محبّ الحكمة" العاشق المورّط حدّ الفناء في عشقه، وكآلية تفكير متحررة من كل المدارس والمنظومات، آلية تغتذي بالأسئلة والحيرة وتنفق كل طاقاتها في بعثرة القيم واليقينيات، محتفية بحرية الفرد كمدى لا متناه من احتمالات الخلق و"الاستجابة الاثياتية" للحياة. سلوتردايك يحفر عن الأسئلة الأولى التي كانت وما زالت تشاغب داخل النصوص، يحثّ عنها غبار الابتذال الناجم عن التداول التعاويذي التهليلي، ويفركها كيما تشعّ من جديد ببريق بهجتها الاستفزازية الأولى-استفزازيته البهيجة العابثة التي تظل تورّط القارئ المتنبه والمفكر الذي لا يغفو في اليقين داخل دوّامة التساؤل الدائم. لا التساؤل حول العالم والمجتمع والعلاقات السياسية والاجتماعية فحسب، بل حول الفكر والمفكر وعلاقته بنفسه وبحريته وفرديته وتفرده في المقام الأول. نص بيتر سلوتردايك هذا الذي بين يدي القارئ قد نجح في تجسيد جانب واحد على الأقل من الذهنية النتشوية: الاستفزاز. إنه يستفزنا لإعادة قراءة نيتشه كمبذّر طوعي
لا يوجد مراجعات