ماركس والدمية
لأول مرة يشعر الأب والأم بضعف في إيمانهما الثوري، ثمة ما يشبه التصدّع في صرح الإلتزام، وهناك تجاعيد تظهر على وجهيهما اللذين كانا حازمين في السابق، يفتحان عيونهما وينظران إلى منزلهما، إلى صالته الفارغة، دون مفروشات تُذكر، دون سجاد، ودون أي ديكور، ويريان ظلال الرفاق الذين كانوا يجتمعون فيه... يفتحان عيونهما ويلحمان المستقبل لأول مرة، مستقبلهم، يريدان العيش، لهذا عليهما الرحيل، سندفنها في الحديقة، عند جذع الشجرة، هذا أفضل مخبأ، ولماذا لا نفعل ذلك؟ أنتِ تعرفين أننا لن نعود أبداً، وحتى لو عدنا فإن هذا المنزل وهذه الحديقة لن يكونا موجودين.
لا يهم، علينا فعل ذلك، لا يمكننا إنقاذها أو إحراقها، أو الأسوأ تقديمها لأيّ شخص، أجل، هذا صحيح، ستكون هدية مسمومة، اذهبي وأحضري الكتب، أنا سأحفر الحفرة، وتضع الأم في هذه الحفرة ماركس وأنجلز ولينين وكارينكو وتشي غفارا وآخرين، ويهيل الأب فوقها التراب الرطب... الفتاة الصغيرة موجودة هنا، تراقبهما وهي واقفة عند المدخل، تقول في سرّها!...
إن هذه الحديقة صارت تحتوي الكثير من الأشياء: دُماها، والآن كتب أبيها الممنوعة... "الوقت متأخر، تقرأ أمي لي كتاباً، لا يسعُني، قراءة متكلفة، فهي تفعل ذلك بشكل روتيني، لم تعُد موجودة، أرى الطيور التي تحوم فوق رأسها تتضاءل، وتختفي أحلامها بالتدريج، كأنها تطردها واحداً تلو الآخر، ماما، أين أبي؟... إنه في بلد آخر، وما هو البلد الآخر؟ يُدعى فرنسا، فرنسا؟ لكن متى سنذهب إلى هناك، قريباً... ومتى هذا القريبّ؟ لا أدري...
لم تعُد الطفلة الصغيرة تطرح الأسئلة، تدرك أن الإجابات ستظل مراوغة وغير مؤكدة، تنام، إننا في منزل عمتي، أخت أبي، الجو متوتر، تريد أمي البقاء في إيران للدراسة وتتردد في الرحيل؛ إنها تائهة، ليس منطقياً أن تَبْقَيْ هنا مع ابنتك، لم أقل أريد البقاء، ماذا إذاً؟ ماذا تريدين أن تفعلي!... ببساطة قدمت إلتماساً لمتابعة دراستي في الطب، لن تتركي أخي وحده في فرنسا.
تلقيت موافقة على إعادة تسجيلي في الجامعة؛ إنها فرصة خارقة، لكن كيف يمكنك أن تكوني أنانية إلى هذه الدرجة؟ إنها حياتي، لا ليست حياتك... عليك الذهاب إليه، كان قرار الرحيل قراره، وليس قراري - حسنا لن تعود تريم مريم... ليس من حقك ذلك - بلى! الطفل يتبع الأب في هذا البلد... ستذهبين إلى هناك... هذا واجبك كزوجة وأم.
في السماء، لم يعد يحلق أي سرب طيور، ولا أي ريشة، لم تعد توجد سوى أبراج الصمت المنتصبة كعلامات إستفهام كبيرة في عيني الطفلة الصغيرة، ذات ليل، إنها واثقة في ذلك، شاهدت أمها في الحديقة، عند جذع الشجرة، تدفن أحلامها، واحداً تلو الآخر، بجانب دماها، لم تَعُد الفتاة ترسم، انتهى بها الأمر إلى تقديم جميع ألعابها وأثاث حجرتها وملابسها وكتبها لأطفال الحي.
راح مسقط رأسها يفرغ من محتوياتها بالتدريج، تركب الدراجة في الشارع المقفر لتقتل الوقت، تراقب بقع البنزين الممزوجة بماء المطر، وقوس قزح على أسفلت الطريق، تطارد قطة، تقطف أزهاراً ينتهي بها الحال إلى إلقائها، تنتظر".
ما بين عام 1980وعام 2003 فترة زمنية طويلة ذلك هو زمن أحداث الرواية، وأما المكان فهو طهران إبان أحداث الثورة الإيرانية... في العام 1980 كانت مريم فتاة تنمو في رحم امرأة، امرأة في سن العشرين استمرت في عنادها على المضي والتظاهر رغم الصفعة التي تلقتها من أخيها... سحابة دخان في البيد، طلقات نارية، صحيات... ولتشكل هذه الصحابة بعد إنهيار الآمال، ظلام يعتري حياتها، والطلقات النارية طلقات الفشل الموجهة إلى حياة الزوجين، والصيحات... صيحات الفتاة التي شهدت وهي في رحم أمها تلك الأحداث... صيحات رفض... صيحات غضب... صيحات إستنكار... الزمن الروائي ما بين عام 1980 و 2003 يبدو مديداً... بينما هو في دوامة الفشل لحظات... فليس شروق شمس الأمل وغروبها سوى سحابة يوم عابر في عمر الإنسان، وما بين الوطن والغربة درب من الآلام.
هكذا تغتال الأحداث السياسية أحلام الإنسان (بغض النظر عن مصداقيتها)، تحاول الروائية تصوير المعاناة الإنسانية في مثل تلك، الثورات بما يشمل العالم أجمع... تسوق ذلك على لسان الرواية، وهي مريم التي جعلتها الروائية تتابع الأحداث قد كانت حنيناً في بطن أمها... إلى رحيلها مع أنها إلى باريس، ثم تنقلها بين بلدان عدة، تتحدث بلوعة وأسٌ عن غربتها... فكم حاولت العودة للإستقرار في بلدها... ولكن؟؟!!.
وكما تحكي عن نفسها تحكي عن أمها ولوعة غربتها في باريس... البنت الصغيرة ذات السنوات الست وأمها في المنزل، تراقب البنت الصغيرة أمها وهي تنظر عبر النافذة، أخذ كلام الأم يقلّ... تنظر الأم لساعات عبر النافذة وهي جالسة على كرسي، تكتب رسائل مقابل النافذة... لم تزل في إيران... أما هنا فالحياة توقفت، والنافذة هي عبارة عن طريق مفتوح يتيح لها الفرار إلى هناك، إنها خلاصها... تخنقها باريس... وفرنسا بأكملها... تتأمل الأفق، وترى فيه رسائل تتراقص وتحملها الريح بين هنا وهناك... رسائل تغادر ورسائل تصل... ورسائل تبكي ورسائل تتذكر، ورسائل تحافظ على ذاكرة المكان خشية أن يختفي، ووسائل معلقة مثل إكليل كلمات طويل يمتّد من السقيفة الباريسية حتى أسطح منازل طهران...
لا يوجد مراجعات