البارافانات
مسرحية "البارافانات" للكاتب الفرنسي "جان جينيه" هي الأخيرة في مسار الكتابة المسرحية لديه بعد "حراسة مشددة" و"الخادمات" و"البلكون" و"الزنوج". كتب جينيه هذه المسرحية في عام 1961، وقدمها المخرج الفرنسي روجيه بلان للمرة الأولى على مسرح الأوديون في باريس في 1966 أي أن أحداث المسرحية التي تدور في الجزائر كانت تتوافق زمنياً مع مرجعها في واقع سياسي معقد وعاصف في فرنسا، فقد كانت حرب الجزائر في أوجها واتفاقية ايفيان تحتل مركز الصدارة في الأحداث السياسية.
ومن يعرف مواقف "جان جينيه" السياسية، يعرف أن اختيار موضوع كهذا لم يكن محض مصادفة: فقد كان صديقاً لكل الذين يناضلون ضد الاستغلال والقمع، وقد كانت مواقفه الشجاعة تتجاوز نطاق الكتابة إلى الفعل، والدعم الحقيقي: فقد استحق السجن وهو من الثامنة عشرة لضرارة من الخدمة الإلزامية التي قضى فترة منها مجنداً في دمشق أيام الجنرال غورو.
إذ لم يقبل أن يكون جزءاً من مؤسسة محتلة تقصف المدن السوية وتدمرها. وقف جينيه أيضاً إلى جانب الفلسطينيين في معاركهم لاستعادة الحقوق المسلوبة، إذ أقام مع الفدائيين أثناء حصارهم في عجلون في الأردن، وكذلك كان أول من زار مخيمات صبرا وشاتيلا في لبنان بعد المجزرة الرهيبة وكتب عنها نصه الشهير "أربعة ساعات في شاتيلا.
أما الجزائريين فقد خصص لهم مسرحية "البارافانات" التي تشكل إدانة صريحة وواضحة للاستعمار الاستيطاني وللاحتلال العسكري ولكل المؤسسات الرسمية بالمطلق تدور أحداث المسرحية "البارافانات" في قرية جزائرية خاضعة لحكن الفرنسيين في الفترة الواقعة بين 1830 وحتى الاستقلال.
والمسرحية في مجملها تضافر زكي ومنطقي بين القصة الشخصية لصيد العامل الفقير المهمش الذي يعيش مع أمه الساحرة وزوجته الأميمة عند مقلب قمامة القرية، وبين التطور العام لأحداث تشمل القرية بأكملها عند ما تثور على المستعمر الفرنسي وتحقق الاستقلال. وزواج سعيد الذي يفتتح المسرحية هو محاولة من الفرد الهامشي الذي يعيش على أطراف القرية للدخول في دائرة المجتمع.
لكن هذا الزواج الذي يربط الرحل الأكثر فقراً بالمرأة الأكثر بشاعة سرعان ما يتحول بسبب سخرية الجميع إلى كابوس بالنسبة لسعيد. بحيث لا يبقى أمامه إلا أن يسكر الطوق الحديدي للأعراف والتقاليد بقيامه بفعل يهدد الملكية الفردية والبنية الاجتماعية المحكمة والأعراف: السرقة. هكذا يتنقل سعيد من داخل الدائرة الاجتماعية إلى خارجها ليعيش في مخطط آخر تحركه قوى فردية بحته ويقف ففيه حب الذات في الموضع الأول.
فإن كانت ثورة سعيد على التقاليد ثورة جزئية إلا أنها فردية تماماً، إذ يتحول سعيد من كائن يرغب في إرضاء مجتمعه إلى إنسان هامشي يسرق للذة السرقة وليس للربح بعد أن عدل عن فكرة الطلاق والزواج مجدداً لأن المبدأ الاجتماعي لم يعد يهمه أصلاً. في نفس الوقت وبحركة موازية لقصة سعيد الفردية نجد المجتمع الجزائري يخضع لسلطة المستعمرين ونجد العمال العرب يعملون من الصباح حتى المساء في أرضهم يستخرجون ميزاتها لصالح المستوطنين دون أن يجرؤوا على مجابهتهم مما يفسر تراجعهم إلى أحضان وردة، المومس بعيدة المنال التي تحمل في ثناياها وتحت أطراف أرديتها المثقلة بالفولاذ خيرات المناجم والكروم.
فالعمال العرب كانوا إذن في محاولتهم إرضاء المستعمرين في البداية سجناء فخ محكم كما كان حال سعيد في قصة الزواج، ومثل سعيد خلاصهم من الطوق لا يتم في هذه المسرحية إلا عن طريق الشر أن الطيبة والخضوع لا يؤديان لشيء. ولذلك تتخذ الثورة على المستعمرين من سعيد شعاراً وراية.