البكباشي والملك - الطفل
ماي / حزيران 1948 خلال الحرب يبسط ثلاثة ضباط خريطة القيادة العامة في قطار حاشد بالجنود، هم في الثلاثين من العمر، يُسمّى أحدهم عبد الحكيم عامر والثاني زكريا محيى الدين، أما ثالثهم فيدعى جمال، جمال عبد الناصر، وسيلَقّب لاحقاً بالكباشي، وهي رتبة عسكرية تركية تعني "قائد الألف".
هذا اللقب سيطلق فيما بعد على رتبة عقيد في الجيش المصري عموماً، الرجل فارع الطول متراً وأربعة وثمانين سنتيمتراً، كحيل العين، ذو إبتسامة تجمع بين السحر والشراسة، كلّ شيء فيه شيء بالقوة والعزم والإقدام، يتقدم الموكب بإتجاه العريش، وهو أول مرحلة في الطريق إلى غزّة، المدينة الحدودية التي خاض فيها شخص يُدعى بونابارت، وهو في طريقه إلى سوريا سنة 1799، معركة دامية ضد قوات جزّا، باشا، غزّة هذه هي التي قال فيها بن غوريون في أحد المجالس الوزارية: "أما غزّة، فأخشى من أن تحوجنا في نهاية المطاف، لو كنت أؤمن بالخوارق، لصليت من أجل أن تغور في البحر".
كلمة لا تخلو من نبوءة، لأن آربيل شارون سيرفع هذا "الحرج" يوم الرابع عشر من أغسطس من سنة 2005، وضع عبد الناصر اصبعه على نقطة في الخريطة: مش معقول! إلى أين يبعثون بنا؟... في أي جحيم يلقي بنا هذا الملك الدمية؟...
اليهود مجهّزون بأسلحة تفوق أسلحتنا تطوراً بمائة مرة، بل لا تمثل أسلحتنا شيئاً أمامها! ينتظرنا في الجهة المقابلة أناس مثقفون جاءوا من أوروبا، وعاشوا في الفيتوهات والبؤس، أما رجالنا فليست لهم أي خبرة بالحرب؛ وجيشنا البئيس لم يخض حرباً أبداً.
ظلّ طيلة الحرب العالمية يترقب، ولم يطلق رصاصة واحدة بإستثناء بعض رجال سلاح المدفعية الذين كُلّفوا بصدّ الهجمات الجوية!... وبإشارة متبرمة أومأ إلى رفاقه من الجنود المتكدسين الغافين، أهؤلاء البؤساء هم من سيسترجعون مئات الكيلومترات من أرض فلسطين، ويطردون الكيبوتزات!!...
كيف إنتهينا إلى هذا الوضع؟!... قبل ذلك بسنة، في يوم التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1947، تبنت الأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين (وكانت ما تزال آنذاك تحت النفوذ البريطاني) إلى دولتين مستقلتين: دولة لليهود وأخرى للعرب.
ولم يحفل احد بطلب رأي 1142000 فلسطيني كانوا ما زالوا يعيشون على هذه الأرض، يضاف إلى هذا أن التقسيم المقترح كان في منتهى العبث، هناك من جهة دولة عربية تمتد على مساحة 12000 كيلومتر مربّع، يأهلها 735000 فلسطيني، منهم 10000 يهودي؛ وفي الجانب الآخر دولة يهودية تمتد على مساحة 14000 كلم مربّع، يسكنها 498000 يهودي و407000 فلسطيني.
أما ساكنة القدس التي تقدّر بــ 205000 نسمة، منهم 100000 يهودي، فتوضع تحت الوصاية الدولية، رفضت الجامعة العربية القرار، ففضلاً عن أن هذا المشروع يقيم حدوداً عبثية، فقد أخذ عليه الفلسطينيون تحيّزه لليهود بمنحهم أخصب الأراضي الواقعة على ضفة البحر الأبيض المتوسط.
وبالموازاة مع ذلك، رفضت الحركات اليهودية المتطرفة (إرجون وجماعة شتيرن) التقسيم، وطالبت بالأرض كلها، كما اعترضت على وضع القدس تحت الوصاية الدولية، وها هي فلسطين تتحول إلى برميل بارود، ويوم الرابع عشر من ماي / أيار 1948، أعلن بن غوريون قيام دولة إسرائيل، وفي اليوم الموالي تحركت وحدات عسكرية من مصر وسوريا والعراق وشرق الأردن نحو فلسطين...
هز عبد الحكيم وزكريا رأسيهما، رفيقهما محقّ فيما يقول، منهم إن لم يكونوا يسيرون نحو حتفهم، منهم يتوجهون على الأقل نحو الهزيمة... ترك عبد الناصر نفسه يهوي على الأرض، ووضع وجهه بين راحتيه...
يعيدك الكاتب بسردياته إلى زمن... إلى تاريخ بعيد، ويبدو كأن ما حدث كان بالأمس؛ قصة البكباشي عبد الناصر... سيرة حياته التي مثلت سيرة أمة بإنتصاراتها وإنتكاساتها، برجالها الأوفياء وبالحنونة منه، بالحكام والساسة العرب عامة الذين تكشف هذه السيرة عن جزء كبير من ممارساتهم التي باعوا من خلالها الوطن والمواطن...
هي خيانات كلفت المواطن العربي عامة والفلسطيني على وجه الخصوص كرامته وكيانه، تأخذ هذه السيرة حيزها الزمني من كفاح البكباشي ورفاقه وإنقلابهم على الملك فاروق وعلى الملكية وسيرهم بمصر نحو الجمهورية ونحو الكرامة... إنتصارات وإنكسارات... إنتصارات وإنهزامات...
سيرة تروي قصة حياة جمال عبد الناصر الإنسان والعسكري ورئيس الجمهورية الذي مثل نسراً حلّق عالياً وهوى في لحظة مأساوية.
لا يوجد مراجعات