رؤى العالم
عندما تحدث جبران خليل جبران عن "الليل"، ملاذ العشاق والشعراء والمنشدين، وموطن الأشباح والأرواح والأخيلة ومنبع الشوق الصبابة والتذكار، في نثريته الشعرية "أيها الليل". كان حديث جبران ينطوي على مفهوم جديد في الشعر العربي الحديث، كما ينطوي على رمز إبداع أساسي، تخلّقت عناقيده وتأسسّت دلالاته، في قصائد الرومانسية العربية، وانسربت منها إلى ما أعقبها من تيارات. وكان المفهوم الجديد يقترن بحساسية متوحدة، تنطوي على العزلة والألم، وتتلفح بالتمرّد والظلام، وتنسحب من حياة الواقع الخشن التي يمثلها النهار إلى حياة الحلم والمثال التي يمثلها الليل، وتتشوق إلى المجهول والغامض والمحبوب، بالقدر نفسه الذي يؤثر حنوّ القمر وإبهامه على قسوة الشمس ووضوحها، وكما كان هذا المفهوم الجديد يقترن بالشاعر المتوحد الذي اعتزل في العالم، وتمرّد عليه بقدر ما اغترب عنه، كان هذا المفهوم يوحد بين الشعر وخفق الوجدان، ملحّاً على حدس القلب وشفافية الروح، نافياً تحليل العقل وبرودة التأمل، وكان الليل رمزاً أساسياً، يقترن بهذه الحساسية المتوحدة، فالليل موطن الأسرار، ومنبع الشعر والوحي والإلهام، والملاذ الذي يلوذ به الشاعر المتوحّد في غربته واغترابه، وذلك على نحو يماثل بين السعي في الليل والاتحاد به، والسعي وراء القصيدة والاتحاد، من خلالها، بالحقيقة المطلقة للإبداع.
وكان ليل جبران شبحاً هائلاً جميلاً، ينتصب بين الأرض والسماء، متوّجاً بضوء القمر، متشحاً بثوب الكسون، يحفو على الغرباء والمتوحدين، حاملاً قلوبهم وأرواحهم إلى عالم يخلو من قسوة النهار. وهو ليل يغري بالارتحال فيه، أو الاتحاد معه، او ملامسته بوصفه تجسداً مادياً، كياناً حياً لا يخلو من ملامح إنسانية؛ مرئية ومحسوسة، أليفة وحميمة. وتجسده الحيّ قرين التباسه من حيث هو حضور يناقض الضوء النهاري؛ لكن من غير أن يلخو من ضوئه الخاص، ضمود الأقمار والنجوم؛ كي ينطوي التباسه على مفارقة الظلام المناقض للضوء (النهاري) والظلام المقترن بالضوء (الليل) في المدى الذي يجاور بين الوجود والعدم، أو أسطورة الولادة الجديدة التي تتخلق من نقائضها أو في تماس مع نقائضها التي تجعل من الليل جباراً حانياً.
وفي حضرة هذا الجبار الحاني، الشاخص بين المغيب والشروق؛ تتجاور الأضداد، وتتولد المفارقة التي ينطوي عليها الإبداع والكشف. ولذلك يتحد جبران بالليلن في الظلمة الصافية، كما يتحد الصوفي بالحقيقة المطلقة في لحظة الكشف التي تجمع بين النبي والشاعر، ويتحول الليل؛ هذا الجبار الحاني، لصبح رمزاً للمطلق الذي تتحد به الأنا المبدعة للشاعر المتوحد، بعد أن صارت شبيهة له، وبعد أن ألفته حتى امتزجت به.
لقد كان جبران يؤسس بهذه الرؤيا تقاليد رمزية جديدة في الشعر العربي الحديث تعود إلى الربع الأول من هذا القرن. وكان جبران، وبالقدر نفسه وبهذه الرؤيا، يصور شعائر تلقيه أسرار الإبداع من خلال اتحاده بالليل، ويحوم حول عناقيد الدلالة الرمزية التي انطوى عليها عشق الليل عند شعراء الرومانسية الغربية، خصوصاً نوفاليس، ذلك الذي رأى في الظلمة الصافية لليل نبعاً للكشف، ومصدراً للإلهام، ورحماً مقدساً للإبداع. وبذلك يفارق "الليل" ترابطاته المألوفة في أذهاننا، ويتحول إلى إله أسطوري، رمز صوفي، كينونة علوية، مقدسة. وتتحول ظلمة الليل الصافية لتغدو النبع العلوي الذي تنساب منه معرفة حدسية، تنسرب معها بوارق الوحي ولوامع الإبداع. إنها "رؤية العالم" أو "رؤيا العالم" من منطلق مغاير وحديث. وهو المصطلح من المصطلحات النقدية التي شاعت في العقود الأخيرة، وذلك في مدى تأثر الأدباء العرب بالنقد الأورو-أمريكي ومصطلحاته، ولكن بما لا يقطع بين المصطلحين والأصول الدلالية التي نتقبلهما في لغتنا، ونجد ما يدعم استخدامهما في ميراثنا البلاغي والنقدي.
وللمضي في دراسة معمقة ونقدية حول آثار هذا المصطلح الحديث في الأدب العربي، رأى الباحث والنقاد جابر عصفور بأن المدخل الأسلم لاكتشاف "رؤى العالم" (بنوعيها الدالين على الرؤية والرؤيا) هو بدئه في دراسته هذه من الأعمال الأدبية بوصفها دوالّ تقود شبكات مدلولاتها العلائقية إلى دلالات متجاوبة، حرة غير مقيدة، بالإمكان أن يطلق عليها "رؤى العالم". لا بوصفها كياناً أنطولوجياً سابقاً على الأعمال، يُستشف من خلالها كما لو كانت نظرة من خلال زجاج، وإنما بوصفها كياناً يتشكل نتيجة عمليتين متجاوبتين ومتوازيتين على السواء: فاعلية الخلق التي يمارسها المبدع في علاقته بالعمل الذي يسعى إلى إنجازه من ناحية، وعلاقة هذا العمل بمئات إن لم يكن آلاف الأعمال السابقة عليه، وتتناص معه بما يجعله نصاً متناصاً بالضرورة، ويوازي ذلك فاعلية القراءة عند المتلقي، وذلك بما يجعل منها قراءة متناصة بالضرورة تطلق سراح وعي القارئ أثناء عملية قراءة النص المتناص بدوره، على كل النصوص التي ينطوي عليها وعي القارئ، ولا وعيه على السواء.
وهو وضع يجعل "رؤى العالم" تتوسط وجودياً (أنطولوجيا) ما بين النص المقروء والعقل القارئ على السواء، فكل قراءة هي نتيجة للفاعلية المبتادلة بين طرفيها: القارئ والمقروء. وقد اختار الباحث أن يتلمس هذا المصلح النقدي من خلال مدخل تمثل في رمزية الليل، في شعر نازك الملائكة، كما وجد أن تحليل الجوانب المتعددة من ديوان صلاح عبد الصبور الأول، وما ينطوي عليه من بدايات لما تجسّد كياناً متكاملاً، هو المدخل الأنسب، وذلك بالقدر الذي رأى في قناع "مهيار الدمشقي" رمزاً مركزياً لا يزال قادراًعلى تفسير رؤيا العالم عند أدونيس، حتى في الدواوين الأخيرة وعلى رأسها "الكتاب" الذي لا تفارقه جدلية العناصر الأربعة التي يتكون منها ميهار، واصلاً رمزية الريح بالنار، والماء بالتراب. وينسحب الأمر نفسه، كما يرى الباحث، على الماغوط الذي ما كان يمكن أن يتجاهل تأسس قصيدة النثر في إنجازه الذي يظل استثنائياً ورائداً، حتى في التمرد عليه من الذين مضوا بقصيدة النثر إلى مداها الذي صنعته الأجيال المتلاحقة إلى الجيل الحالي.
لا يوجد مراجعات